سعید الشهابی

دعاة الوحدة قليلون، وما أكثر مروجي الفرقة. هذه حقيقة تتجلى مصاديقها يوميا، ولكن يفضل الكثيرون ان لا يروها. والتغافل عنها لا يلغيها بل يكرس وجودها.
بعض دعوات الفرقة والشتات مؤسس على الاختلافات المذهبية التي ليس فيها جديد سوى ما وضعه اعداء الوحدة من مراجل تحتها، وما امدوها به من النفط والغاز الوفير بأيد غير قادرة على تسخيره لخدمة الوحدة والتنمية والتطور. وبعضها الآخر ينطلق من رغبة في تثبيت الخصوصية العرقية لبعض الفئات المجتمعية التي تعتقد ان الدولة القطرية لم تنصفها، بل تجاهلتها وقمعت ثقافتها وتطلعات ابنائها. اما البعض الثالث فيرى في وحدة امة العرب والمسلمين تهديدا لمصالحه وسدا مانعا امام اطماعه.
هذا البعض الاخير يملك من الامكانات ما يساعده على اثارة كافة اسباب الاختلاف. فهو ينتمي لجهات ترى في وحدة الامة تهديدا لوجودها، وهي جهات اجنبية في الغالب، ولكنها متحالفة مع الاستبداد والطغيان الذي هيمن على حكم البلدان العربية طوال الحقبة السوداء ذات العقود التسعة. يستفيد هذا 'البعض' من الطرفين الاولين، فيساعدها على التشبث بمواقفها وسياساتها تارة بدعمها بالمال والسلاح والاعلام، واخرى بالتحريض السري والمعلن، وثالثة باستهدافها اعلاميا او سياسيا لضمان بقائها يقظة متأهبة لتنفيذ خططها التمزيقية. فعندما تتصاعد النغمة الطائفية أليس ذلك دعوة مباشرة للفرقة وتجزئة الاوطان؟ فمن الذي يمد هذه الجهات بالمال والاعلام؟
ومن الذي يوفر لها الغطاء الديني الذي يشحنها ويحولها الى قنابل بشرية تتفجر في كل مكان وتنسف معها الحرث والنسل؟ من اين جاءت ثقافة استهداف المساجد وقتل المصلين بهذه الوحشية والجرأة على الدين والانسانية والاخلاق والضمير؟ انتحاري واحد في دمشق قتل اكثر من خمسين مصليا في مقدمتهم واحد من علماء المسلمين الكبار الذي بكى القلب لمصرعه في محراب العبادة. ما علاقة الدين بهذه الاعمال؟ وما الهدف السياسي الذي سيتحقق بهذا الموت الاسود؟ ما هي تلك الجهات التي تسعى لربط الاسلام بالدم والقتل والتفجير والعنف؟ وأية امة يمكن ان تتوحد وتقوى اذا تحول ابناؤها الى محترفين لصناعة الموت بدلا من حبهم للحياة التي يعمرون بها الارض احرارا بدون اغلال او استعباد او تبعية؟
مشوار الفرقة يبدأ بمشاريع سياسية اما لتكريس الاستبداد او الاحتلال او الفساد، ويتوسع بتعمق الجهل وتسلط الجهال على مسيرة الامة. هؤلاء لا ينطلقون من اهداف استراتيجية في ما يفعلون، بل ان جهلهم بالواقع والحقيقة والعلم والدين، يجعلهم غير قادرين على استشراف نتائج ما يفعلون. ان حب الحياة غريزة لدى البشر، لا فرق في ذلك بين الاجناس والثقافات والاديان. فعندما تغرس ثقافة الموت في النفوس يتضاعف الخطر على الامة والانسانية والقيم. فبالاضافة للمدارس الفقهية التي تروج للعنف والقتل والذبح، فان سياسات الدول الغربية تجاه العالمين العربي والاسلامي في العقود الثلاثة الاخيرة ساهمت في تفريخ ثقافة الموت لان هذه السياسات تعمق الشعور بعبثية العيش في ظل هيمنة الاستعمار والاستبداد والاحتلال. فمثلا عندما يكرر الرئيس الامريكي، وهو يزور تل أبيب الاسبوع الماضي بان بلاده ملتزمة بالدفاع الاستراتيجي عن كيان الاحتلال الذي يرفض تطبيق القرارات الدولية الهائلة التي صدرت ضده، فان تصريحاته، هي الاخرى، تعمق شعور الجيل الجديد بان السياسات الغربية، التي تروجها انظمة الدولار النفطي، تساهم في تعميق الانقسام داخل البيت الفلسطيني، لانها تبث اليأس في النفوس من امكان تحرير الارض، وان الاستسلام للاحتلال هو الطريق الاسهل لتحقيق الامن والتسوية السياسية. وبهذا تكون السياسات الغربية تجاه قضية فلسطين واحدة من عوامل تفريق الامة واختلاف كلمتها، خصوصا مع وجود وكلاء محليين لتلك القوى الكبرى. هذه الدول التي تبدو 'صديقة' لبعض قوى المعارضة العربية، هي نفسها التي شنت الحروب ضد دول عربية عديدة، آخرها العراق الذي تمر هذه الايام الذكرى العاشرة للحرب التي اسقطت نظامه وأسست لتقسيمه مستقبلا. وهذه الدول نفسها هي التي تحفر اسس تقسيم البلدان الاخرى لكي تضعف هذه الامة وتسهل السيطرة عليها. وليس العراق وحده هو المهدد بالتقسيم، بل ان سوريا هي الاخرى تعيش ذلك الهاجس خصوصا في ضوء ما يجري بها من تطورات، ودخول الغرب معركة التغيير فيها بقوة. وفي الاسبوع الماضي اعلن عن التحاق مجموعة من المقاتلين بالعمليات داخل سوريا بعد ان اكملوا تدريباتهم في الاردن على ايدي ضباط امريكيين. فمتى كانت امريكا صديقة للشعوب ورائدة للحرية ومروجا للديمقراطية في العالم العربي؟
في الاسبوع الماضي اعلن الرئيس عمر البشير قراره بالاستقالة من منصبه ليشغله شخص آخر بدم جديد. جاء ذلك بعد 23 عاما على رأس السلطة بعد الانقلاب العسكري الذي قام به في 1989 و اسقط به حكومة الصادق المهدي. والسودان الذي يترك البشير رئاسته يختلف عن ذلك الذي تزعمه طوال الفترة الماضية. فقد تحققت كبرى الخطوات التي وضعها الغربيون على طريق تفتيت الامة واضعافها. فخسر السودان العربي المسلم ثلث مساحته وتغيرت خريطته بشكل نهائي بعد ان قرر مسيحيوه الانفصال واقامة دولة خاصة بهم. ولم يعد مستبعدا ان يواجه السودان تقسيما آخر، يؤدي الى انفصال دارفور (الاقريقية) المسلمة عن بقية الجسد السوداني (العربي المسلم). تقرر تقسيم السودان، ونفذ ذلك القرار ولم تذرف دمعة واحدة من ابناء هذه الامة على هذا المصير الذي سيتكرر طالما استمرت مسيرة التجزئة والتفتيت، في ظل الصمت المريب من كافة الاطراف السياسية والدينية التي يفترض ان تكون اكثر اهتماما وتفاعلا مع هذه التطورات. وفي الاسبوع الماضي ايضا، اعلن عبد الله اوجلان، زعيم حزب العمال التركي، المعتقل ان حزبه سيتخلى عن الكفاح المسلح ضد تركيا واصدر اوامر لهم بالتخلي عن السلاح. اطلق اوجلان دعوته تلك من زنزانته الانفرادية في جزيرة إمرالي في بحر مرمرة في تركيا. ومنذ اختطافه في 1999 من كينيا في عملية مشتركة نفذتها وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (سي آي أيه) ووكالة الاستخبارات الوطنية التركية (ام آي تي) شهدت تركيا واحدة من اشد فتراتها توترا بسبب العمليات العسكرية التي شنها حزبه. مبادرة اوجلان مرتبطة بمشروع اقامة دولة للاكراد في المنطقة المشتركة بين العراق وسوريا وتركيا وروسيا. وليس مستبعدا ان تشهد الشهور المقبلة حراكا سياسيا في هذا المضمار بعد ان تم اضعاف العراق وسوريا، واصبحت تركيا تحت ضغوط دولية لتخفيف الضغط على اكرادها. ومن الصعب توجيه اللوم للاكراد لمطالبتهم باقامة دولة خاصة بهم، في واقع اصبح خاضعا لثقافة ترتكز على مقولات 'الخصوصية الثقافية' و'حق تقرير المصير'، و 'فصل الدين عن الدولة'. وفي ظل تعدد المعايير وازدواجيتها، اصبح للغربيين القدرة على استغلال اوضاع الاضطراب السياسي والامني في البلدان العربية لتنفيذ مشاريعهم الهادفة لاضعاف هذه الامة وتمزيقها.
فما يجري في سوريا اليوم ليس منفصلا عن سياسات اضعاف البلدان الكبرى في المنطقة العربية الاسلامية بهدف تفتيتها لتسهل السيطرة عليها. يتم ذلك في غياب مشاريع الوحدة والتقارب الحقيقية خصوصا بين الدول العربية والاسلامية الكبرى. فسوريا ليست بعيدة عن شبح التقسيم. اما العراق، فيواجه ذلك الشبح ايضا لاسباب عديدة منها انه دولة عربية كبرى قادرة، فيما لو استقرت، على القيام بدور عربي اسلامي فاعل، والتحول الى بوتقة وطنية تتلاشى فيها خطوط التمايز الديني والمذهبي والعرقي، وانها ايضا قادرة على تقديم انموذج ديمقراطي متميز. اما مصر، بعد الثورة التي اطاحت بحكم حسني مبارك، فهي عنوان القضية الساخنة التي تقلق التحالف المتآمر ضد وحدة امة العرب والمسلمين. فهي المدخل الى كافة القضايا ابتداء بفلسطين، مرورا بالممارسة الديمقراطية، وصولا الى التآلف بين العرب والمسلمين. ولذلك اصبحت مصر مستهدفة في عدد من الظواهر التي ترتبط بها. فممارستها الديمقراطية مستهدفة لان نجاحها يعني بداية التغير في العالم العربي كله، وانتهاء حكم الاستبداد الذي خيم على المواطنين عقودا. كما ان 'اسلاميتها' المعتدلة كفيلة بتقديم انموذج ايجابي لما يسمى 'الاسلام السياسي'، الامر الذي من شأنه ان يوسع دائرة التغيير في الدول العربية، لان الاخوان المسلمين كظاهرة وتنظيم موجودون فيها بحضور واسع. ومصر بوتقة للاديان والمذاهب وبامكانها تقديم مثل للتعايش السلمي بين اتباعها، بعيدا عن التطرف او التعصب او التشدد. فمصر ارض المتصوفين، كما هي ارض الاخوان، وهي قاعدة العلمانيين، كما تحتضن السلفيين. وفي مصر يعيش المسيحيون كما هم المسلمون، بدون ان يكون هناك ما يعكر صفو التعايش سوى نزعات التطرف والتشدد الدخيلة على مصر وثقافتها. ولذلك فان بقاء مصر دولة متماسكة ومحكومة بممارسة ديمقراطية شفافة خيار لا يرضي الكثيرين، والمطلوب افشال مشروعها الديمقراطي بأسرع وقت لكي لا يشجع شعوب الدول العربية الاخرى على المطالبة بمثله. ولذلك اصبحت مصر اليوم مهددة بالتوتر السياسي المفتعل، يطاردها شبح التجويع لاجبارها على التراجع او الاستسلام للارادة الغربية. القاهرة مطالبة ايضا بالتطبيع مع الكيان الاسرائيلي كخطوة تطمئن اصحاب مشاريع التفتيت. ولكن حتى لو قامت بذلك، فلن تكون بمنأى عن محاولات التفتيت والتمزيق. والخشية من الازمات الداخلية المصطنعة ليست من نسج الخيال بل هي الحقيقة التي يؤكدها تهريب الاسلحة الكثيرة للمجموعات المختلفة للاستخدام وقت الحاجة.
ازاء هذه الظواهر المقلقة جدا، ماذا عن مستقبل المنطقة على مستوى تماسك بلدانها وقدرة حكامها على امرين اساسيين: تطوير انظمتهم السياسية بما يلبي طموح الجماهير المتطلعة للحرية والرافضة للاستبداد والديكتاتورية، ومدى رغبتهم في مد الجسور مع بعضهم لوقف نزعات التفرق والتمزق. من المؤكد ان الحقائق المذكورة ليست غائبة عن اذهان السياسيين الجدد الذين استلموا مقاليد الامور في هذه البلدان. ولكن المشكلة ان الهم الكبير المتمثل بحماية الامة وحمايتها من الانزلاق في متاهات الفتن الداخلية والتفتت والفرقة، يظل متواريا امام الهموم المحلية الاصغر لدى هؤلاء الحكام. فحكام مصر مشغولون بالمماحكات السياسية اليومية ويلهثون لاحتواء الآثار المدمرة للمؤامرات الخارجية ضدهم. وحكام ليبيا وتونس محاصرون بتبعات الثورة والآمال العريضة لدى جماهيرها، ويتعرضون ضمن هذا الحصار لاستهدافات سياسية وامنية واقتصادية وثقافية لا يملكون القدرة لاحتوائها. بل ان بعض هذه الهموم قد يبدو لهؤلاء الحكام انها 'هواجس' لا تسندها الادلة المبرمة، وبالتالي لا يمكن تقديم الاهتمام بها على القضايا المحلية الاخرى التي تستدعي اهتماما خاصا ولا يمكن تجاوزها نظرا لما في ذلك التجاوز من مخاطر امنية واحتمالات تساقط الشهداء. ان من غير المنطقي السعي لفرض اجندة 'ايديولوجية' على انظمة محاصرة بمشاغلها السياسية اليومية، والتطورات المتلاحقة في ساحاتها المحلية. ولكن المطلوب ان تنبري مجموعات فكرية او دينية او سياسية للتعاطي مع هذه 'الهواجس' بروح تهدف لاستيعابها وادراك آثارها المرتقبة على قضايا الوحدة والتنمية والاستقلال وبناء الدولة الحديثة المؤسسة على تحقيق رغبات الشعوب وتفعيل ادوارها. المشكلة ان هذا الاستيعاب لا يكفي لاحتواء الازمة المرتقبة، بل المطلوب الدخول في سباق مع الزمن لمنع آثارها الميدانية المدمرة للامة ووحدتها وصون مقدساتها والحفاظ على ثوابتها الفكرية والايديولوجية والسياسية. فامة المسلمين تبحث عن مستقبل فاعل تتجلى فيه حرية الشعوب، وتختفي منه ظواهر التبعية للخارج او الذوبان في مصهر التمزيق العرقي والمذهبي. وما شهدته المنطقة خلال السنوات الاخيرة يؤكد ان هذا التحدي كبير وغير محصور بحدود واحدة من الدول القطرية دون غيرها. وما لم يتم التعاطي مع هذا التحدي بروح المسؤولية والشعور بالخطر فقد تتضاءل الخيارات مستقبلا ويصبح من غير الممكن احتواء الموقف.
في عالم تهيمن عليه ثقافة المصلحة الذاتية ويخضع لقوى الثورة المضادة التي لا تتوقف عند حد وهي تستهدف الظاهرة الثورية، اصبح من الضرورة بمكان احداث نهضة فكرية ونفسية وسياسية متوازية مع الحراكات الشعبية، لفتح طريق الانتقال نحو الديمقراطية، وتجاهل املاءات الغرب وسياساته التي تهدف لابقاء الامة متخلفة وضعيفة وهشة، في مقابل تغول 'الآخر' الغربي او 'الآخر' العربي الذي يمتلك المال والسلاح والاعلام. وما لم ينبر لقيادة الامة علماؤها وقادتها السياسيون ومفكروها ومثقفوها فلن تستطيع الجماهير تحقيق خطوات حقيقية على الطريق نحو الحرية وتقرير المصير واسترجاع الهوية وتحقيق الوحدة بين مكونات الامتين العربية والاسلامية.

دكتر سعيد الشهابي ( كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن )
 

رمز الخبر 184725