٠ Persons
١٣ أغسطس ٢٠١٣ - ١٦:٣٥

خالد الدخیل

 

مصر فی حالة انقسام حاد یمتد من القاعدة الشعبیة إلى صفوف النخبة بکل مکوناتها السیاسیة والثقافیة والاجتماعیة. وعلى خلفیة ذلک یبدو البلد وکأنه ینزلق ببطء نحو حرب أهلیة تهدد الجمیع. على السطح، ومن النظرة الأولى ربما أن هذا أمر طبیعی ومتوقع، لأنه یأتی نتیجة طبیعیة لحالة ثوریة لم تعرفها مصر من قبل. لکن ما هو غیر طبیعی وغیر متوقع هو حالة الارتباک الشدید والمحیر التی أمسکت بمقدرات مصر ومستقبلها فی هذه اللحظة الحرجة. النخبة السیاسیة مرتبکة. لا تستطیع الاتفاق على حل أو مخرج من المأزق. على العکس، یبدو کل واحد من مکونات هذه النخبة وکأنه یحاول تجییر المأزق وحالة الانقسام لمصلحته السیاسیة، وفرض رؤیته على الجمیع. هذا یبدو واضحاً بشکل خاص لدى الأطراف المناوئة للإخوان، وهی تستقوی بالجیش لتحل محل هؤلاء الإخوان فی السلطة. الأزهر یبدو مرتبکاً، وکذلک الکنیسة. القضاء منقسم، وکذلک الإعلام. النخبة المثقفة هی الأخرى منقسمة. لا یبدو أن هناک رؤیة ثالثة تقدم بدیلاً سیاسیاً لما هو متداول. حالة من الکراهیة تهیمن على المشهد، ویتم التعبیر عنها بلغة بذیئة، تنعدم فیها أدنى درجات المسؤولیة. انتشرت مفردات مثل: إرهابیون، وحمیر، ومجرمون، وبهایم، وغزاة، وکفار، وخونة. أقل شتیمة قیلت فی حق الإخوان مثلاً أنهم «جملة اعتراضیة» فی تاریخ مصر. أحدهم وصف السیناتور الأمیرکی جون ماکین فی مقالة فی جریدة معروفة بـ «الحقیر» لأنه اعتبر ما حصل فی الثالث من تموز (یولیو) الماضی انقلاباً عسکریاً.

نحن هنا أمام مفارقة کبیرة ومحزنة بین التاریخ الحضاری الطویل لمصر، وعمق تجربة الدولة فی هذا التاریخ من ناحیة، وبین الأداء السیاسی البائس للقوى المنخرطة فی الحالة الثوریة، والخطاب السیاسی الأکثر بؤساً المصاحب لهذا الأداء. ینتشی المصریون عندما یقولون عن بلدهم بأنه «أم الدنیا». هل مصر حقاً کذلک بعد الانقلاب العسکری الثانی فی تاریخها، وما فجره من ثقافة کراهیة وإقصاء؟ ألیس هناک تناقض حاد بین الانتشاء بتعبیر «أم الدنیا»، وبین عدم الالتفات إلى ما یتضمنه هذا التعبیر من تبعات، وما یتطلبه من مسؤولیات؟ یبدو أن المصریین فی العمق یتعللون بتلک الجملة الشهیرة، والأرجح أنهم یختبئون وراءها. یوجد فی مصر أکبر خزان للآثار فی العالم. وهذا دلیل على تاریخها الحضاری الطویل: من الفراعنة، مروراً بالرومان، ثم الفتح الإسلامی، وتحولها إلى دولة عربیة إسلامیة ابتداء من الخلافة الراشدة، مروراً بالأمویین، إلى سقوط العباسیین. ثم بعد ذلک الدولة العثمانیة، فالحملة الفرنسیة. بعد الحملة بدأت تجربة محمد علی التی تحولت إلى نظام ملکی بفعل أمر سلطانی، فالاستعمار الإنکلیزی. وخلال ذلک شهدت مصر ثلاث «ثورات» ما بین 9 أیلول (سبتمبر)1881 و 23 تموز (یولیو) 1952. ثورة 25 ینایر هی الرابعة فی هذا التسلسل، والحقیقة إنها الأولى بطبیعتها الثوریة الشعبیة.

هذا تاریخ طویل یمتد لأکثر من ستة آلاف سنة. وهو تاریخ غنی بالکثیر من التجارب السیاسیة والعلوم والثقافات وأنواع الفکر. عرفت مصر فی هذا التاریخ مختلف أنواع الدول: الدینیة فی عهد الفراعنة والخلافة الراشدة، والدولة الإمبراطوریة المسیحیة مع الرومان، ثم الإسلامیة مع الأمویین والعباسیین. کما عرفت السلطنة بعد تحول مصر إلى ولایة عثمانیة کبیرة فی عهد العثمانیین. ثم الملکیة الحدیثة على ید ذریة محمد علی، ثم النظام الجمهوری بعد 23 یولیو 1952. المفارقة أن مصر بعد کل هذا الغنى التاریخی والحضاری تبدو الآن فقیرة سیاسیاً وفکریاً. على رغم ذلک تبدو مصر فی حالة ارتباک، وعاجزة أمام متطلبات ثورتها الشعبیة الأولى.

کیف انتهت هذه الثورة إلى ضابط عسکری برتبة فریق أول یقف ببزته العسکریة ویقرر عزل رئیس منتخب مهما کان رأینا فیه، ملغیاً بذلک، وبجرة قلم، ملایین الأصوات التی انتخبت هذا الرئیس؟ الحقیقة أن انقلاب الجنرال السیسی یتمتع بدعم شعبی، ودعم من قسم کبیر من النخبة. لکن هناک أیضاً معارضة شعبیة للانقلاب، وهناک قسم آخر من النخبة لا یقل حجماً کما یبدو معارض له؟ ربما أن مرسی کان رئیساً لجماعته وعشیرته، ولیس رئیساً لمصر. وربما أن الإخوان کانوا یعملون على أخونة الدولة. وحقیقة الأمر أن مرسی لم یکن مؤهلاً لیتولى رئاسة مصر، بخاصة وهی فی حالة ثوریة غیر مسبوقة. هل فشل الإخوان فی الحکم؟ على رغم قصر المدة، إلا أن الإجابة على هذا السؤال تقع على الأرجح فی خانة الإیجاب لا السلب. لکن المشکلة لم تعد هنا. کانت هنا قبل انقلاب الفریق السیسی. أما بعد الانقلاب، فقد باتت فی مکان آخر. على رغم کل ما یمکن أن یقال عن مرسی، وعن الإخوان أثناء تجربتهم فی الحکم، إلا أنهم جاؤوا إلى هذا الحکم بإجراءات قانونیة، وبأصوات شعبیة. وبالتالی کان یجب أن یحتکم فی محاولة عزلهم عن الحکم إلى نفس الإجراءات والمرجعیات القانونیة التی جاؤوا بها. کل محاولة لتحقیق ذلک خارج هذا الإطار، وتعتمد على قوة الجیش هی انقلاب. القول بأن الجیش کان ینفذ إرادة شعبیة هو من نوع الفذلکة عرفت بها الانقلابات العسکریة العربیة، ومن ثم طبعت الثقافة السیاسیة لما بعد ذلک. صحیح أن ما قام به السیسی لم یکن انقلاباً کلاسیکیاً کما حصل فی 1952. وصحیح أنه سبقته تظاهرات شعبیة، وحظی بغطاء من القوى الدینیة والسیاسیة. لکن الصحیح أیضاً أن مرسی جاء إلى منصبه بطریقة قانونیة، ویحظى بدعم جماهیری مقابل. والصحیح کذلک أن ما قام به السیسی لا یستند إلى دستور أو قانون، وإنما إلى وجهة نظر. والأهم من کل ذلک أن الدیموقراطیة والدستور، وبناء دولة المؤسسات لا یمکن أن یتحقق إلا بالتراکم. والتراکم یتطلب الاستمراریة، وتصحیح الانحرافات بالمنطق نفسه، وبالآلیات نفسها، وإلا تحقق الانقطاع، وتوقفت الاستمراریة، وبالتالی انقطع التراکم. من هنا خطورة انقلاب السیسی، لأنه یلغی مرجعیة الدستور، مشکلاً بذلک سابقة تعید تأسیس منطق القوة العاریة فی وجه تجربة ولیدة تأسست على منطق القانون، والمشارکة الشعبیة، وصندوق الانتخاب.

تلغی خطوة الجیش مدنیة الدولة لصالح طبیعتها العسکریة، أی تلغی أهم مکتسبات ثورة 25 ینایر. وهذا بحد ذاته انقلاب على الثورة. یستخدم الانقلابیون أوجه القصور فی تجربة حکم الإخوان کمبرر للانقلاب، وهی أوجه على رغم صحتها، لا تبرر الانقلاب. کان هناک أکثر من طریقة دستوریة للتعامل مع الموقف، لیس من بینها تدخل الجیش. الذی یبدو أن الجیش استغل أخطاء الإخوان للعودة بغطاء شعبی إلى الإمساک بالدولة من جدید. لم یکن من حق الفریق السیسی أن یعزل رئیس دولة منتخب، وأن یعطل الدستور، ویعین رئیساً موقتاً، ویحدد له صلاحیاته، ثم یأتی لیلقی أمام هذا الرئیس الموقت القسم کنائب لرئیس الوزراء، ووزیر للدفاع. هذه صورة کاریکاتوریة لعملیة سیاسیة مرتبکة تماماً. ثم یخطب السیسی بعد ذلک، ومن وراء ظهر الرئیس الموقت، مطالباً الشعب أن یعطیه تفویض «محاربة الإرهاب»! تساءل کثیرون، وعن حق، من هو رئیس الدولة فی هذه الحالة؟ عدلی منصور؟ أم عبدالفتاح السیسی؟

تبدو مصر بعد الثورة، وبعد الانقسام الذی أحدثه الانقلاب، وکأنها باتت عبئاً ثقیلاً على تاریخها الحضاری الطویل. کأن مصر أنهکها هذا التاریخ بکل إنجازاته، وانکساراته، وتعرجاته. أصبحت أسیرة له، ومکبلة بقیوده، وأمسى هو عقبة کأداء أمام انطلاقتها فی مسار تاریخی مختلف، وتجربة سیاسیة جدیدة. أبرز ما طبع تاریخ مصر سطوة القوة العسکریة. انتظم محمد علی فی هذا التاریخ عندما کرس حکمه وإصلاحاته لمصلحة الجیش. وتعززت سطوة هذا المؤسسة بعد ثورة 23 یولیو 1952. ویبدو أن الانقلاب الأخیر تعزیز آخر لهذه السطوة.

 

 

* أکادیمی وکاتب سعودی

الحیاة

رمز الخبر 185315