فی مقال له لجریدة رأی الیوم ظریف: أینما تکون الإرادة لمکافحة الإرادة والتطرف تتوفر الوسائل اللازمة

محمدجواد ظریف

یجری الحدیث کثیراً الیوم عن التحدی الهائل الذی یواجهه المجتمع الدولی والمتمثل بالإرهاب والتطرف، وعن مقاربات مکافحتهما واحتوائهما، على أمل القضاء علیهما.

وبغض النظر عن المکان الذی تقف فیه کل دولة من هذین التحدیین التوأمین، وبغض النظر عن جوهر السیاسة الرسمیة لهذا البلد أو ذاک، فإن المجتمع الدولی بأسره یتقاسم قناعة مشترکة بأن هذه المشاکل تحتاج إلى معالجة عاجلة وبأنه یجب التخلص منها بأکبر قدر من الفعالیة، وأشک فی أن هناک أی تساؤل یطرحه أحد منا حول الحاجة الماسة لهذه المهمة الصعبة.

وبعیدا عن المجادلات التی لا تنتهی بین السیاسیین، تبرز مشکلتا الإرهاب والتطرف، بوصفهما نتیجة طبیعیة للفشل الجوهری فی الوضع الدولی الراهن (والمستجد). وهذه الظاهرة لا تقتصر على أی جزء من العالم، ولیست حکراً على دین واحد، کما أنه لا یمکن مکافحتها على الصعید الإقلیمی فقط أو من خلال الاعتماد الکبیر على المعدات العسکریة.

بعد عقد ونصف العقد من الفشل الإجمالی فی مکافحة الإرهاب خلال فترة ما بعد حادث الحادی عشر من سبتمبر (2001)، فإن حقائق قبیحة على الأرض تدفعنا للنظر بعیون مفتوحة إلى هذه التحدیات، من دون أوهام أو خداع للذات.

یجب أن یکون قد أصبح جلیاً لدینا أن مواجهة ناجحة وفعالة لهاتین الظاهرتین السرطانیتین، تستدعیا اتباع نهج شامل واستراتیجیة متعددة الجوانب تعتمد أولًا وقبل کل شیء، على فهم واع واعتراف بقدراتهما الاجتماعیة والثقافیة والاقتصادیة والظروف العالمیة.

إن احتواء - وفی نهایة المطاف القضاء على - المنظمات الإرهابیة المتطرفة على الأرض مطلوب بالتأکید، ولکن ذلک یعتبر فقط کخطوة أولى ضروریة وکمکون من جهد هو أکبر بکثیر. إن المشاکل ذات الطبیعة الدولیة وذات الجذور العمیقة تتطلب فهماً صحیحا وتعاونا عالمیا حقیقیا فی مواجهتها.

تفکیک بُنی الافتراضات

للحد من المفاهیم الخاطئة ومحاولات التشویه وکثرة توجیه أصابع الاتهام نحو المواضع الخاطئة، وللوصول الى الظروف الاجتماعیة والعالمیة الحقیقیة، لا بد من کشف زیف الافتراضات الخاطئة. ویبدو أن الالتفات الرسمی والسائد نحو الإرهاب والتطرف، سواء فی الولایات المتحدة أو فی أی مکان آخر، یظهر کمادة صمم تخصیصاً للاستهلاک المحلی، أو کمنطق لخطوط سیاسیة وإجراءات معینة. فی هذه الحالة، فإنه لیس من المستغرب أن نسمع مستشار الأمن القومی لدولة إقلیمیة ذات أهمیة ـ على سبیل المثال ـ یقول «سوف یدمر المتطرفون والقوات السوریة بعضهما البعض فی ساحات القتال فی سوریة». هذا الخط فی التفکیر والسیاسة یفسر إلى حد ما لماذا وصل الوضع إلى المأزق الحالی. إن وجهات النظر قصیرة المدى للوضع المعقد ـ ناهیک عن انتهاج سیاسات لخدمة مصالح ذاتیة قصیرة الأمد ـ محکوم علیها بالفشل. وکما یرى الجمیع، هذا ما حصل بطبیعة الحال، ولیس فقط فی سوریة.

هناک أسطورة ثانیة یجب فضحها. فمن السهل بالنسبة لنا فی غرب آسیا إلقاء اللوم على الغرب کمتهم نهائی فی مشاکلنا. لا یوجد نقص تاریخی هنا. الظلال الطویلة والذکریات المؤلمة والمستمرة، والمؤدیة إلى الانقسام، والتراث المصنوع من «الخطوط المرسومة فی الرمال» خلال وبعد الحرب العالمیة الأولى، لا یزال یتردد صداها فی کثیر من الدول ولا تزال تقض مضاجع کثیر من المجتمعات فی غرب آسیا.

فی الوقت ذاته، فقد کان أکثر ملاءمة للغرب أن یقوم بإلقاء اللوم علینا - المسلمین فی منطقة غرب آسیا - بغض النظر عن الاختلاف الموجود والخلافات وحتى النزاعات والصراعات. وربما کان التحول الأسهل للجمیع هو توجیه أصابع الاتهام فی کلا الاتجاهین، وفی داخل المنطقة. ولکن هذا غیر دقیق وغیر مفید، ولاسیما أن عالمنا أصبح أکثر تعقیداً من أی وقت مضى.

الأسطورة الثالثة التی یجب تبیانها هی ما یُفترض من وجود علاقة مباشرة بین الدیکتاتوریة والتطرف، والتأکید البدیهی المتکرر أن الدیموقراطیات لا تحار ببعضها البعض. ومع أن ذلک ینطوی علی اجتزاء للحقیقة، إلا أن الحالة الفعلیة التی نواجهها الیوم هی أکثر تعقیدًا مما یمکن التعبیر عنه، وهی تتحدى التفسیرات المریحة. عندما نرى أن أفراداً متعلمین ممن ولدوا فی الغرب والذین ترعرعوا فی کنف الدیموقراطیة،فی المجتمعات الغربیة الغنیة، والذین یتحدثون اللغة الفرنسیة أو الإنکلیزیة کلغة أم، ولکنهم یلوحون بقطع رؤوس الأبریاء من البشر فی سوریة والعراق على شاشات التلفزیون وعلى شبکة الإنترنت؛ عندها لا یمکن لأحد البحث عن ملجأ فیتصور سیناریوهات مبسطة والمشارکة فی ألعاب اللوم الصحیحة سیاسیاً. الأطفال الذین تربوا فی بیئات دیموقراطیة یقتلون جیرانهم، فضلاً عن بعضهم البعض. ببساطة أضحى من غیر المقنع إلقاء اللوم عن هذه الفظائع الدمویة على دیانة معینة، أو بشکل حصری على نظام تعلیمی أو حتى سیاسی فی أی مجتمع غرب آسیوی.

شروط التمکین

العالمیة والداخلیة والإقلیمیة

إن الحالة التی نجد أنفسنا فیها، بمستوى قبحها الفعلی، هی أشد خطورة من لعبة تقاذف المسؤولیة بین بعضنا البعض. والحقیقة هی أنه فی حین یمکننا الاعتراف بأن هناک الکثیر من اللوم، فنحن بحاجة إلى الإقلاع عن عادة رمی الکرة دائماً فی ملعب الجانب الآخر. إذا ما کنا على استعداد للبحث الصادق فی ذواتنا، فإننا سنبدأ بطرح تساؤلات بسیطة لکنها خطیرة، مثلاً: ما الذی یصنع متطرفاً من شاب ولد ونشأ فی فرنسا، أو بشکل مشابه، فی أی من المجتمعات الأوروبیة أو فی أمیرکا الشمالیة؟ حتى بقدر مماثل لشاب ولد ونشأ فی أفغانستان أو سوریة، أو الیمن أو لیبیا أو السعودیة، أو فی أی مکان آخر فی منطقتنا؟ یجب علینا جمیعاً أن نبدأ بالنظر إلى التطرف کمأزق مشترک ومشکلة إشاعة، ولیست محصورة فی منطقة محددة أو عرق، أو دین، أو مذهب.

نقص الأمل

بالنظر إلى بعض الشروط المواتیة، فإن الأمل - أو فی الواقع انعدام الأمل - هو أمر محوری فی المعادلة. وهذا هو بالضبط ما یحدث عندما تثق بالحقائق الثابتة الافتراضات المتجانسة مزحزحة المشکلة موضوع البحث على صعید المنطقة والمجتمع، متقدما کان أم نامیا، غربیا أو شرقیا، مسلما أو غیرذلک.

الحقیقة القائمة على نطاق واسع، ولیس مجرد تکهنات نظریة أو حتى تحلیل أکادیمی، هی أن القاسم المشترک الذی یربط جمیع المتورطین بعنف متطرف هو أنهم یشعرون، وینظرون إلى أنفسهم کفئة مهمشة فی مجتمعاتهم، وحتى على الصعید العالمی.

وهم یعتقدون أنه لیس لدیهم أی أمل فی مستقبل أفضل. فهم لا یرون إمکانیة فعلیة وممکنة لتحقیق ذات منتجة فی بیئة اجتماعیة ملائمة ومواتیة إنسانیا - سواء فی المجتمعات الغربیة التی أصبحت أشد انطواء وأکثر کراهیة للأجانب، أو فی المنطقة التی تعانی من قبضة التخلف وانعدام الاحتمالات لحکومة تمثیلیة. إن موجة المشاعر القومیة التی ظهرت فی صنادیق الاقتراع فی السنوات الأخیرة من أوروبا وحتى أمیرکا قد لا تعکس، للأسف، سوى المزید من الیأس الموصوف. ولکن فی المنطقة، وحتی مع الاعتراف بوجود اختلافات کبیرة بین مختلف الدول على الأسالیب العملیة للانتخابات باعتبارها شکلا من أشکال التمثیل الشعبی، یمکن التسلیم بسهولة أنه فی عدد قلیل جداً من الدول الواقعة غرب آسیا لدى عامة الناس إمکانیة للتنفیس عن إحباطهم من خلال صنادیق الاقتراع، أو من خلال صندوق أو حتى عبر أی آلیة آخرى لا وجود لها فی العدید من البلدان الأخرى فی المنطقة.

التهمیش والإقصاء والازدراء

فی الدول الغربیة التی تجری فیها العملیة الانتخابیة بشکل جید عموما، المشکلة تأخذ اتجاها آخر أکثر تفاقما وخطرا. عندما تجد شریحة من السکان المهمشین بشکل ممنهج نفسها فی الطرف الخاسر من اللعبة الاقتصادیة والأسوأ من ذلک، ترى معتقداتها وقیمها ومقدساتها مستهدفة بشکل منتظم، لا یجب أن یکون مفاجئاً أن یتوجه البعض منهم، مهما کانوا أقلیة صغیرة، إلى وسیلة أخرى غیر الاحتجاج السلمی. وکما قال سیاسی أوروبی ذات مرة: «فی الغرب، إذا هاجمت السود، فأنت عنصری، وإذا هاجمت الیهود، فأنت معادٍ للسامیة. ولکنک إذا هاجمت المسلمین، فأنت تمارس حریتک فی التعبیر». إنه أمر مثیر للسخریة، ولکنه انعکاس صریح لحالة حقیقیة تنطوی علی إشکالیة: الهجوم المباشر على وجود وهویة السکان المستهدفین أو المجتمع المستهدف. فی مثل هذه الحالة من المحتوم أن یُخلق استیاء وغضب لا علاقة لهما بأی منظومة اعتقادیة.

الدراسات والمراجع الحالیة والغنیة فی مجال التحلیل الاجتماعی بالإضافة إلى الخلاصات المدروسة جیدا فی العدید من دراسات الحالة فی المجتمعات المختلفة، بما فی ذلک حالة معینة من الاضطرابات الاجتماعیة فی فرنسا قبل بضع سنوات، یعطینا صورة مقلقة لواقع التهمیش والإقصاء الاجتماعی والثقافی والسیاسی. وبالتالی مهمتنا هی تحقیق الفوز فی سباق بین الیأس وإلهاب شعلة الأمل.

وکلما تعمقنا أکثر، کلما ذکرنا بوجود مجموعة غامضة من العوامل الفاعلة. بعض الذین ارتکبوا أسوأ الأعمال الوحشیة باسم الإسلام لم یتبعوا تعالیم الإسلام حتى. فمن الغریب أن الشخص الذی دخل بقالة الکوشر (الیهودیة) فی باریس وبدأ بإطلاق النار على الناس عشوائیا کان بصحبة عشیقته - وعلاقته بها لیست بالضبط علاقة یمارسها رجل مسلم ناهیک عن متعصب. فی نیس الفرنسیة - حیث قامت شاحنة بدهس الرجال والنساء والأطفال - ارتکب هذا الاعتداء شخص کان معروفا بارتیاده لحانات باستمرار. شُرب الکحول هو أیضا غیر متوافق، کما یعرف معظم الناس، مع تعالیم الإسلام. لذلک، ما نواجهه هو مشکلة اجتماعیة وثقافیة، ولیس فقط ظاهرة دینیة.

إنها ظاهرة اجتماعیة ناتجة عن حالة عمیقة من الحرمان والإقصاء والتهمیش فی بیئة غنیة ومتقدمة، بیئة عملیا لا توفر الأمن والاحترام والمشارکة والأمل للأفراد والجماعات والمجتمعات المحرومة. لا یمکننا التقلیل من شأن أهمیة مسألة الهویة - والتغاضی عن العواقب القبیحة وغیر المقبولة متى ما وأینما ظهرت على شکل کدمات. هذا واحد من الشروط التی لا بد من التصدی لها ومعالجتها.

التدخل ونزعات الهیمنة

قضیة أخرى للدراسة هی مشکلة مزمنة وقدیمة وهی الغزو والاحتلال الأجنبی، وما جلبا فی أعقابهما. القضیة الأکثر إلحاحا هی حالة احتلال فلسطین لسبعین عاما تقریبا. وقد تفاقمت أکثر بسبب التدخلات السیاسیة والعسکریة المنتظمة من قبل الولایات المتحدة للحفاظ على ـ وتکریس وخلق ـ ما تریده من ترتیب وهندسة إقلیمیة منشودة و«نظام عالمی جدید».

وعندما أعلن الرئیس جورج بوش ظهور «نظام عالمی جدید» فی خطابه أمام الجمعیة العامة للأمم المتحدة، استند إلى الوهم بأن الولایات المتحدة قد فازت فی الحرب الباردة، بینما الواقع هو أن الاتحاد السوفیاتی انهار نتیجة لظروف داخلیة بشکل کبیر. فی عالم لا معنی للعبة صفریة المجموع، الغرب لم یفز فی الحرب الباردة، ولکن السوفیات خسروا بکل بساطة. إلا أن الوهم خلق عقلیة وزخما دفع لاحقا إلی محاولة إضفاء الطابع المؤسساتی على الاحتلال المتصور من خلال الاشتباکات العسکریة المتکررة - التی حصلت مرة واحدة تقریباً فی السنة فی عهد الرئیسین بوش (الأب) والرئیس کلینتون، ولیس فقط فی عهد جورج بوش الابن. وقد نسی البعض العملیات السنویة تقریبا والرئیسیة فی العراق خلال التسعینات، وغزو الصومال، والهجوم على لیبیا وکوسوفو، وأماکن أخرى فی أوروبا خلال العقد الأول للحرب الباردة. وکلها تعکس رغبة الولایات المتحدة فی استخدام القوة العسکریة المتفوقة لإضفاء الطابع المؤسساتی الموقت على النظام العالمی المهزوز.

وصل هذا النمط من لجوء الولایات المتحدة إلى القوة العسکریة إلى ذروة جدیدة معقد وما لمحافظین الجدد إلى واشنطن فی 2001. مأساة حادث 11 سبتمبر، عجلت فی غزو واسع النطاق لأفغانستان واحتلالها، وفی وقت لاحق فی غزو واحتلال العراق. بالمناسبة، دمرت هاتان المغامرتان العسکریتان الأمیرکیتان، اثنین من أعداء إیران اللدودین: الطالبان فی شرق البلاد والنظام البعثی فی الغرب، ولکن بالنسبة لنا، والحکم علیها من منظور المدى الطویل وعلى صعید المنطقة، فقد اُعتبرت تلک التدخلات رهانات سیاسیة مکلفة وکارثیة ستؤدی حتما إلى عدم استقرار سیهدد جمیعا لأطراف الفاعلة وصاحبة الحضور المشروع فی المنطقة.

فی فبرایر 2003، قبل وقت قصیر من الغزو الأمیرکی للعراق، وأثناء عملی کسفیر وممثل دائم لإیران لدى الأمم المتحدة، ذکرت أمام مجلس الأمن: «نظرا لحالة المجتمع العراقی والمنطقة بأسرها، هناک الکثیر من الأوراق غیر المتوقعة، ولا یمکن لأی طرف أن یضعها مسبقا فی حساباته بأی درجة من الیقین. ولکن هناک نتیجة واحدة هی شبه مؤکدة: التطرف یستفید بشکل کبیر من مغامرة غیر مدروسة فی العراق».

ووافقنی عدد کبیر من الزملاء فی المنطقة على تلک الإدانة، رغم قلة من کانوا على استعداد لقول ذلک علنا. لم تلزمنا عبقریة للتفکیر على هذا النحو. فحساب بسیط یعکس الحقائق الأساسیة للفعل ورد الفعل فی منطقتنا.

بات من الواضح الآن تماما أن هذین الرهانین الفاشلین شکلا جذور الأوضاع المأسویة الجاریة التی نشهدها الیوم فی أفغانستان والعراق وسوریة. بعد 15 عاماً على غزو أفغانستان، هل هی أکثر أمنا الیوم مما کانت علیه فی العام 2001؟ وبغض النظر عن الشعور بالرضا حیال رؤیة هزیمة طالبان، تظل الحقیقة أن روح الشعب الأفغانی المجروحة والشعور العمیق بالحقد ما زال یؤرق المجتمع الأفغانی الذی مزقته الحرب. استمرار حالة انعدام الأمن والصراعات الداخلیة، والتی تزداد تفاقما بسبب أمور أخری بما فیها عدم وجود استثمار جاد فی الاقتصاد الأفغانی، أدى إلى ازدهار اقتصاد المخدرات. وکانت النتیجة الصافیة لغزو أجنبی هو استمرار العنف المستشری ونشاط إرهابی من دون رادع، بالإضافة إلى تجارة المخدرات التی لا تضاهى، موفرة الکثیر من الهیرویین للعالم، الأمر الذی نتحمل نحن الإیرانیین عبء مواجهته.

المغامرة العسکریة فی العراق أدت إلى سلسلة من الأحداث والأوضاع المستعصیة التی تجتاح المناطق المجاورة الآن: ظهور وهجوم الجماعات الإرهابیة مثل داعش وجبهة النصرة ودوامة غیر مسبوقة وعدیمة الرحمة من العنف الوحشی. أمثلة عدیدة تبرز هنا من الأعمال الإرهابیة الانتحاریة فی السنوات الأخیرة، بمافی ذلک الهجمات التی یشنها عناصر لا تتجاوز أعمارهم الـ 14 عاما، وهی تشیر إلى غضب عمیق الجذور بین الجماهیر إزاء الاحتلال الأجنبی المحتقر. انها لیست مجرد مسألة التلقین الإیدیولوجی وغسل الدماغ لمجموعة معزولة من المتعصبین. إنها حملة منظمة وممولة جدا حیث تستخدم أحدث أنظمة الاتصالات وتقنیات غسل الدماغ المتقدمة من أجل تجنید وتدریب جحافل الانتحاریین المتحمسین. وما یسمى «عامل الجذب لدى الجماعات الإرهابیة» هو فی الواقع مربک ومحیر. کما أنه یتحدى فهمنا المشترک للعالم الحدیث.

وقد کتب العدید من المحللین عن الشعور العمیق بالعجز والحقد الذی یعود أولا إلى القضیة الفلسطینیة التی لا تزال غیر محلولة وفی الآونة الأخیرة إلى الاحتلال للأراضی العربیة والإسلامیة الأخرى. لذلک، فإننا نحصد ما زرعه الآخرون فی هذه الأراضی التی تعانی على المدى الطویل عواقب تلک «الخطوط المرسومة على الرمال» قبل قرن من الزمن.

من المهم أن نستخرج استنتاجا أوسع من المغامرات العسکریة المشؤومة فی منطقتنا. بکل بساطة، إن عصر الهیمنة قد ولى. فالتطورات العالمیة فی عصر ما بعد الحرب الباردة، لاسیما تعدد الجهات الفاعلة على الساحة العالمیة، جعلت من المستحیل لأی قوة عالمیة واحدة - مهما کانت مزایاها غیر متکافئة من ناحیة القوة العسکریة والاقتصادیة والفکریة - أن تکون بمثابة قوة مهیمنة.

مجرد حقیقة أن الجهات الفاعلة غیر الحکومیة أصبحت مهمة ومحددة للجهات الأمنیة، هی أحد الأسباب التی تسهم فی زوال الهیمنة. وقد کلفت هذه النزعات بین عامی 1990 و2005 تریلیونات من الدولارات لدافعی الضرائب الأمیرکیین کما کلف الجمیع الکثیر من الحزن والبؤس والموت. استمروا فی تلقی خسائر فادحة فی منطقتنا وخارجها فی شکل من أشکال العنف المتطرف. ومن المؤمل أن القومیة الموضوعة فی غیر محلها سوف لا تحاول إحیاء هذه الاتجاهات الوخیمة مهما کانت أصداؤها الشعبیة المبسطة جذابة ومغریة لجمهور الناخبین.

لا بد لجمیع الأطراف الإقلیمیة أن تعترف وتقدّر أن الأمر نفسه ینطبق على نزعات الهیمنة الإقلیمیة. هذا هو الحال فی منطقة غرب آسیا، التی تدفع بالفعل ثمنا باهظا بسبب طموحات الهیمنة العالمیة بشکل خاص. ومن المتوقع أن قوى إقلیمیة أخرى تنضم لإیران فی قبول هذه الصفة الممیزة الأساسیة لعصرنا.

المکونات الداخلیة

لفهم ما حدث ویحدث على أرض الواقع فی المجتمعات الواقعة فی قبضة الصراع والعنف، من المؤکد أن الترکیز على العوامل الخارجیة فقط أو الاعتماد على نظریات المؤامرة هو أمر مضلل. یجب أن تکون الحقائق الجلیة - والممکن ملاحظتها بوضوح - کافیة فی جمیع الأنحاء: إنّ تمزق المجتمعات النامیة بفعل الغزو والاحتلال، وعملیات التنمیة التی تعانی من وضع حرج، فضلا عن تفشی وتفاقم الفقر مع کل عواقبه السلبیة على النسیج الاجتماعی، بما فی ذلک البطالة على نطاق واسع والآفاق القاتمة لمستقبل جید ومعقول، تشیر کلها إلى بیئة اجتماعیة غیر صحیة وهی بمثابة أرض خصبة مؤاتیة لجمیع أنواع العلل الاجتماعیة وتصاعد العنف السیاسی المغذى من تلقاء ذاته.

فشل الدولة

إن أهم المکونات الداخلیة للفسیفساء المعقدة أمامنا هو فشل منظومة الدولة فی الاستجابة لطلب الجماهیر الأساسی من أجل تحقیق الکرامة. وتظل الحقیقة القائمة هی أن بعضا من أسوأ الانتحاریین جاءوا من المجتمعات الأکثر ثراء فی غرب آسیا، والبعض الآخر من العائلات المیسورة.

القصة الکاملة لمرتکبی حادث 11 سبتمبر باتت معروفة؛ 15 من أصل 19 أتوا من المملکة العربیة السعودیة، 2 من الإمارات العربیة المتحدة، واحد فقط من مصر وآخر من لبنان. لذلک، فهنا لا یظهر أن الفقر والحرمان یختصران کل شیء.

ثم یصبح السؤال، لماذا أن الناس القادمین من خلفیة ثریة یتحولون إلى نوع من السلوک «غیر العقلانی» الذی یناسب المجرم المتهور؟ ووفقا للمحللین الذین یحاولون تفسیر الزیادة غیر المسبوقة فی العنف والتی على ما یبدو لا معنى لها فی هذا الجزء من العالم، فإن السبب الأساسی یکمن فی الفشل التاریخی لمنظومة الدولة فی التصدی ـ والاستجابة الفعالة ـ لتطلعات الشعب الأساسیة.

لیس من الصعب فهم المنطق الکامن فی ثورة الجماهیر المحرومة ضد أجهزة الدولة غیر الخاضعة للمساءلة وغیر الفعالة بشکل عام فی غرب آسیا، ثورة ضد منظومة الدولة بأکملها وعدم قدرتها على تلبیة احتیاجات وتطلعات السکان الأساسیة. ویمکن بالتأکید فهم - وتحلیل - عدم قدرة وإحباط العالم الإسلامی لناحیة تسویة الوضع الفلسطینی. لکن الأمر لا یقتصر على ذلک فقط. الکثیر یمکن أن یقال ویکتب عن العیوب والنقائص المؤسساتیة فی هذه المجتمعات والتی تجسد المأزق الحالی. ولکن هذه القضایا لیست موضوع بحثنا هنا، إلا بقدر ما تؤثر على مشکلتی التطرف والإرهاب.

استراتیجیة الإلهاء

إنّ إحباط جیل الشباب الذی یتمّ استخدامه بمهارة من قبل الدیماغوجیین المتطرّفین ومموّلیهم للوصول إلى العنف العبثی والهمجی ـ ولو کان موقتاً ـ ضدّ الأبریاء، موجّه حتماً ضدّ الأسس التی تقوم علیها دول المنطقة. ولذلک فإن محاولة نفی الخطر الوجودی الداخلی من خلال حرف الغضب تجاه الأعداء الخارجیین المختلقین محاولة مضلِّلة بشکل خطیر.

وکما تقدّم، فإنّ بعض الحکومات فی المنطقة قد خلقت المجموعات المتطرفة وسلّحتها وموّلتها، منها «داعش» والنصرة، مستخدمةً إیاها فی حروب بالوکالة فی سوریة والعراق دول أخرى. ومع أن هذه السذاجة الوهمیة قد تسببت بمقتل مئات الآلاف، إلاأنها لم ولن تؤدی إلى النتیجة «المبتغاة» من «قتل السوریین والمتطرفین بعضهما لبعض فی المعارک السوریة».

فی المقابل، تمّ خلقُ الوحوش الذین لا یکتفون بإراقة الدماء فحسب وإنما ینشرون مشاهد وحشیتهم لاستقطاب المزید من المجنّدین. وقد صبّوا جامّ غضبهم على من أطعمهم وکبّرهم.

أیدیولوجیة الإقصاء

بعیدا عن أجهزة الدولة الفاشلة والمهمِلة واللامسؤولة، ومحاولاتها الرامیة إلی حرف اهتمامها، ثمّة أیضاً عامل شبه أیدیولوجی قائم على التفرقة والانقسام والکره وإنکار الآخر وعدم تقبّله. إلا أنّ هذا الفکر لا صلة له مطلقاً برسالة الإسلام الأصیلة والحقیقیة کما جاء بها القرآن والسنة النبویة. ولکن للأسف، یوجد فی المجتمع الإسلامی فکر قائم عل «التکفیر» أو الرفض، وهو مخالف تماماً للتعالیم القرآنیة الأساسیة.

فالمجموعات التکفیریة ومنها القاعدة وطالبان و«داعش» والنصرة وحفنة من المجموعات الصغیرة والجدیدة، یتمّ تمویلها بسخاء وبشکل کامل من مصادر البترودولار المعروفة. ولقد تمّ ذلک عبر شبکة عالمیة من المساجد والمدارس الدینیة سواء فی المجتمعات الإسلامیة أو فی الدول الأخرى. إنّ هکذا ترویج للکره قد تمّ بیعه على نطاق عالمی وتحدیداً للولایات المتحدة وحلفائها على مدى حوالى أربعة عقود من الزمن على أنه الإسلام «المعتدل» لمواجهة إیران «المتطرفة». وبذلک لم تتقبّله الولایات المتحدة وحلفاؤها فی الدول الغربیة فحسب، بل حفّزته وقامت بحمایته أیضاً.

ولکن التضلیل التکفیری للإسلام لقی رواجا فی دول غرب آسیا وخارجها نتیجةً لتجذّر الکره المنتشر بسبب المغامرات الأمیرکیة الممتدة فی أفغانستان والعراق، إضافةً إلى الإحباط المهیمن بسبب الأزمات المحلّیة الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة.

وفی هذا السیاق حوّل الدیماغوجیون هذا الفهم الخاطئ للإسلام إلى جماعة منظمة جیّداً من المجموعات والقوى المختلفة - والتی بعضها یتمتّع بقدرات عسکریة لافتة، فضلاً عن الاعتماد على بقایا البعثیین فی العراق - والشبکات المتوسعة التی تجنّد المهمّشین من الأقلیّات المسلمة فی دول الغرب.

ولـّد النمط المستمر من دورة الفعل وردّ الفعل إحساساً بوجود التهدید المباشر والمحتوم على أی مجتمع متطور أو دیموقراطی یفترض أن یکون محصّناً من ظاهرة کهذه. ولهذا السبب ـ والکیفیة - فإنّ المشکلة المتفاقمة التی اُعتبرت وثیقة الصلة بمساحة ومنطقة وثقافة معیّنة، قد فرضت نفسها فی المحفل الدولی على أنها مصدر تهدید عالمی فعّال عملیّاً یمتدّ من شرق آسیا إلى غربها وإلى شمال أفریقیا وأوروبا وحتى إلى أمیرکا الشمالیة.

العامل الإقلیمی

ثمّة بالتأکید مکوّن إقلیمی للعنف المتطرّف المنتشر حالیاً، وخصوصاً فی العراق وسوریة. فسقوط صدّام حسین ونشأة الحکومة العراقیة المنتخبة من الشعب ولّد مخاوف لدى بعض دول المنطقة حول اختلال التوازن فی غرب آسیا لمصلحة إیران، وهذا ما یجب أن یتغیّر مهما کلّف الثمن، على الأقل بمنظور همهم. فتنظیم القاعدة فی العراق، بقیادة الزرقاوی، ومن خلال زواجه المدبّر مع بقایا قادة حزب البعث، بقیادة عزّت ابراهیم الدوری، نشر عدم الاستقرار والعنف فی عراق ما بعد صدّام حسین، وظهر لاحقاً على هیئة «داعش» وغیرها من المجموعات المشابهة لها.

لا یمکن تجاهل الدعم الإقلیمی لهذه القوى من قبل الحلفاء المفترضین فی الغرب. وقد تحوّل القلق فی ما بعد إلى رعب بعد سقوط بعض الحکومات «الصدیقة» فی شمال أفریقیا وثورة الیمن. أما الأحداث التی تلتف تخطت العراق وأتت بالبؤس وإراقة الدماء إلى البحرین وسوریة والیمن، ومن المقدّر لها أن تصل إلى أفغانستان ووسط آسیا. فسلسلة الفعل وردّ الفعل، بالإضافة إلى الأحداث والأقوال الأخرى - بغض النظر عن من المتسبب والمبتدئ أو من المذنب فیها - قد عادت بالفائدة على الإرهابیین المتطرفین، وهی تشکّل خطراً یتمثّل بالتصعید والمواجهة.

البحث عن حلول صلبة

إنّ مجرّد وجود التهدید وطبیعته التی تبدو متصلّبة، کما هی الحال فی العراق وسوریة، قد أدّى إلى وعی جماعی متزاید فی العالم، رغم کونه مختلف الدرجات، فضلا عن تزاید فی التوافق الدولی على الحاجة الملحّة لمواجهة هذه الظاهرة وهذا التهدید. وإیران، التی هی نفسها أیضاً ضحیة هذا الإرهاب منذ أول أیام الثورة، تؤمن بوجوب الرد الإقلیمی والدولی الحاسم والشامل والمشترک على هذا الخطر وظروف نشأته. إن مبادرة «الحوار بین الحضارات»،التی اقترحتها إیران عام 1998 (قبل أحداث 11 سبتمبر وقبل انتشار أی فکرة عن «صراع الحضارات»)، ومبادرة «عالم ضدّ العنف والتطرف» التی اقترحها الرئیس حسن روحانی عام 2013، واللتین صادقت علیهما الجمعیة العامة فی الأمم المتحدة، تشخّصان بدقّة الظروف الاجتماعیة والثقافیة والعالمیة المؤاتیة التی ساهمت فی نشأة العنف المتطرف وانتشاره. أما نجاحهما فیعتمد على تفاعل جمیع الأطراف على الصعیدین الإقلیمی والدولی.

أما فی ما یخصّ المکوّن الإقلیمی، فإنّ عدوان صدّام حسین على إیران فی سبتمبر العام 1980 والحرب الباهظة الثمن التی طالت مدّة ثمانی سنوات، قد علّمت الجمیع فی منطقة الخلیج الفارسی الدرس الثابت أنهم یجب ألّا ینجرّوا إلى أی صراع عسکری آخر. وقد أملت إیران، على ما یبدو بلا جدوى، أن یتعلّم جیرانها من آثار الحرب الإیرانیة - العراقیة، أنّ الوحش الذی خلقوه لتدمیر عدوّ مصطنع انتهى بهم إلى کابوس یؤرقهم. وقد أثبتت الحرب أیضاً ضرورة ترتیبات وآلیات الأمن الإقلیمی، الأمر الذی نصّت علیه الفقرة الثامنة من قرار مجلس الأمن فی الأمم المتحدة رقم 598 الذی أنهى الحرب الإیرانیة - العراقیة. وما زال هذا القرار قابلاً للتطبیق فی مجال تعزیز التعاون الأمنی على مستوى المنطقة. وفیما یجب إضعاف هذه القوى مثل داعش وفروعها بشکل فعال وهزیمتها، فإنّ إعادة السلم والأمن إلى منطقة غرب آسیا وتحدیداً منطقة الخلیج الفارسی تتوقّف على تعزیز مجموعة من المبادئ المشترکة للفهم المتبادل والتعاون الإقلیمی الأمنی المشترک.

یعلمنا التاریخ - والأمثلة القویة من المناطق الأخرى، تحدیداً فی أوروبا وجنوب شرقی آسیا - أنّ دول المنطقة بحاجة إلى اجتثاث الحالة الراهنة المتمثلة فی الانقسام والتوتر، والتوجّه نحو خلق آلیة عمل متواضعة ـ ولکن واقعیة ـ تبدأ من منتدى حوار إقلیمی. ویجب أن یقوم هذا المنتدى على مبادئ معترف بها بشکل عام وأهداف مشترکة، وبخاصة احترام السیادة والتکامل الإقلیمی والاستقلال السیاسی لجمیع الدول، وتقدیس الحدود الدولیة، وعدم التدخل فی الشؤون الداخلیة للدول الأخرى، والحل السلمی للنزاعات، وعدم مشروعیة التهدیدات أو استخدام القوّة، وتعزیز السلم والاستقرار والتطور والازدهار فی المنطقة.

ومن شأن منتدى کهذا المساهمة فی تعزیز الفهم والتفاعل على مستوى الحکومات والقطاع الخاص والمجتمع المدنی، والتوصل إلى الاتفاق على نطاق واسع من المواضیع التی تتضمّن إجراءات بناء الثقة والأمن، ومکافحة الإرهاب والتطرف والنزعات الطائفیة، وضمان حریة الملاحة وتدفق البترول وغیره من الموارد، وحمایة البیئة.

ومنتدى الحوار الإقلیمی قد یطوّر أیضاً بشکل تلقائی المزید من اتفاقیات عدم الاعتداء والاتفاقیات الأمنیة الرسمیة. وفی حین یجب أن یرتبط هذا الحوار بأصحاب المصالح الإقلیمیین، یجب استخدام إطارات العمل المؤسسیة للحوار وخصوصاً على مستوى الأمم المتحدة. ودور الأمم المتحدة الإقلیمی، المذکور مسبقاً فی قرار مجلس الأمن رقم 598، من شأنه أن یساهم فی تخفیف التوتر والقلق، وخصوصاً لدى الدول الأصغر، ویزوّد المجتمع الدولی بضمانات وآلیات لحمایة مصالحه الشرعیة وربط أی حوار إقلیمی بالمواضیع التی تتخطى حدود المنطقة بشکل متکامل.

التعدیل المعرفی

إنّ الخوض فی أساسیات الحالات الفعلیة المختلفة فی منطقة غرب آسیا - سواء على سبیل المثال فی سوریة أو فی الیمن - بما فی ذلک لماذا وکیف تطورت کل حالة إلى ما هی علیها لآن، هو خارج نطاق هذا المقال.

ومع ذلک، فإن لیس من الصعب فهم الأسباب والعوامل والسیاسات التی ساهمت فی تطویر وظهور هذه الحالات المأسویة. وکما قال أحد السیاسیین الأمیرکیین ذات مرة: «للجمیع آراؤهم الخاصة ولکن لا یحق لهم إیجاد حقائق خاصة بهم». فالحقائق فی هذه المعادلة غیر قابلة للجدل، وقد حان الوقت للجمیع أن یتفقوا على الحقائق قبل محاولة التصدی للمشکلة.

مع الاستفادة من تجاربنا السابقة والنظر إلى الوضع العالمی الأوسع نطاقا، فإن من الضروری أن ندرک تماما الفرق بین وجهتی نظر متعارضتین فی المقاربة بین الأزمات الإقلیمیة والدولیة: عقلیة اللعبة الصفریة المجموع zero-sum تأتی مقابل نهج المعادلة غیر الصفریة non-zero-sum. وفی عالم معولم خضع کل شیء فیه للعولمة بدءاً من البیئة وانتهاء بالأمن، فإنه یکاد یکون من المستحیل إنجاز شیء على حساب الآخرین. إن مقاربات المجموع الصفری تؤدی إلى نتائج سلبیة المحصلة. وفی عبارات أبسط، فالخیار الأوضح یکون بین سیناریو «الخسارة للجانبین» و«الربح للجانبین». فلا وجود لحل وسط.

ونتیجة لذلک، فلا حل عسکریا للصراعات فی العراق وسوریة والیمن والبحرین. وأؤکد هذا الأمر بشدة. فهی تحتاج إلى حل سیاسی یستند إلى نهج ذا محصلة إیجابیة، بحیث لا یتم استبعاد أی ممثل حقیقی - بصرف النظر عن أولئک الذین یقومون بأعمال العنف المتطرف - من العملیة، أو یتم تهمیشه فی النتیجة. للأسف، هذا الأمر یبدو أسهل قولاً من أن یتم تطبیقه أو الاعتقاد به على أرض الواقع. ولکن یمکن للمرء اللجوء إلى الحکمة المأثورة: «حیث هنا کإرادة، هنا کوسیلة».

إن التطورات الإیجابیة الأخیرة فی لبنان فی انتخاب رئیس جدید بعد عامین من المناورات السیاسیة المریرة، وفی «أوبک» حیث وضع جمیع الأطراف خلافاتهم جانبا للتوصل إلى حل ینفع الجمیع - بحیث تم تجنب نتیجة کارثیة - تعکس درسا سیاسیا بسیطا ومهما: لقد تخلت الأطراف المعنیة عن توقعاتها المتطرفة ذات المجموع الصفری فی سبیل التوصل إلى تسویة فعلیة. عند النظر فی حالات أخرى لا سیما سوریة والیمن، یمکن للمرء أن یحذو حذو اللبنانیین ویأمل أن تکون عملیة سیاسیة من ذاک النوع - أی عملیة الأخذ والعطاء وعملیة تتطلب التنازلات والتسویات - یمکن الاعتماد علیها لوضع نهایة للمآسی الحالیة. وخیر البر عاجله.

ورغم الصعوبات التی تنطوی علیها کل أزمة، توجد دائماً احتمالات الاستکشاف والتوصل إلى نتیجة مقبولة لجمیع الأطراف المعنیة فی نهایة المطاف. بشکل أکثر وضوحاً، توجد دائماً وسیلة للوصول إلى الجواب الإیجابی: ولکن للقیام بذلک، لا بد من إعادة فحص المشکلة من أجل تحدید حقیقتها. حینما یتم تشخیص المشکلة من منظور المعادلة غیر الصفریة، فإنه یکون قد تم اتخاذ أهم خطوة نحو حل المشکلة. لذلک فإن طبیعة التحدی بشکل مبدئی وقبل کل شیء تکون معرفیة فی الطبیعة والجوهر. فحالما تستعد الجهات المعنیة لوضع میولها جانبا والتفکیر بطریقة مختلفة، ستتبعها السیاسات والإجراءات.

الرأی : http://www.alraimedia.com/ar/article/makalat/2017/04/23/761087/nr/iran

رمز الخبر 188676