تاريخ النشر: ١١ يناير ٢٠١٣ - ٢٠:١٠

الدکتور کمال الهلباوی


 

خبرأونلاین-بعیداً عن الکوارث الاقتصادیة والسیاسیة التی تمر بها مصر الیوم، فإن الانقلاب الاعلامی فی الصحف القومیة فی التوجهات والتحلیلات، فاجأنا بقدر غیر یسیر من النفاق محافظة على المسیرة ومسایرة لکل العهود والأذواق والألوان. لم یخجل الأهرام ولا القائمون على أمره بعد الثورة أن یذکر یوم الأربعاء 2 ینایر 2013- فی العنوان الرئیسی فی الصفحة الأولى- بأن القیمة الادخاریة للجنیه المصری أعلى من الدولار.
قد یکون هذا صحیحاً وفق تحلیل یفهمه الاقتصادیون أو أهل البنوک، ولکن المواطن العادی لا یقبل هذه اللغة ولا هذه التحلیلات، ولا یقبل إلا أن تظل قیمة الجنیه المصری ثابتة أمام الدولار والاسترلینی، وأن تظل الأسعار ثابتة، وهو ما وقع عکسه تماماً، وسینعکس ذلک حتماً حالیاً أو لاحقاً على الأقل، على السلع المستوردة وما أکثرها.
وقد عبّرت عن هذا کل صحف المعارضة، حیث جاء فی الصفحة الأولى فی نفس یوم الأربعاء فی جریدة الیوم السابع وفی العنوان الرئیسی أیضاً 'الغلاء یحاصر المصریین بعد إرتفاع الدولار' هذا على سبیل المثال لا الحصر. کأننا فی بلدین مختلفین ولسنا فی قطر واحد، أما جریدة الحریة والعدالة فجاء فی صفحتها الأولى فی الیوم نفسه، بأن 'صندوق النقد ملتزم بدعم مصر.. والدولار یستقر عند 6.42 جنیهات'. ولا أدری ماذا یجبر صندوق النقد الدولی على أن یلتزم بدعم مصر، ولا ماذا یجبر الدولار على أن یستقر عند رقم معین من قیمة الجنیه المصری. معادلة تحتاج إلى مزید من الشرح والاقناع. دعنا أیها القارئ من الاقتصاد وهمومه، ولنعد إلى شیء من هموم السیاسة، فی محاولة جدیدة لفهم بعض ما یدور وما یطرح فی السوق من تصریحات قد تکون استباقیة لأمر جلل، لن تظهره إلا الشفافیة المفقودة حینما تعود.
جاءت تصریحات الدکتور عصام العریان بشأن الیهود صادمة فی ضوء تاریخه المتمیز فی الحرکة الوطنیة والاسلامیة منذ السبعینات، وإسهامه مع آخرین فی إحیاء مفاهیم الحرکة الاسلامیة الوسطیة، وتجدید دعوة الإخوان المسلمین وسط الشباب المتخبط آنئذ، وخاصة أن الدکتور العریان یشغل مراکز سیاسیة کبیرة ومهمة فی مصر الیوم، ولیست مراکز أو مهام فی نطاق الدعوة فقط.
وفی عهد عبدالناصر الذی أشار إلیه أو لمزه العریان فی تصریحاته، وبعیداً عن الظلم الکبیر الذی وقع على الإخوان المسلمین آنئذ، لم یکن احد فی مصر ولا غیرها، یستطیع أن یذکر کلمة 'إسرائیل' إلا خلسة أو خجلاً، وإن ذکرت فمشفوعة بالعدوان والاحتلال والإجرام. ورغم هزائم مصر العسکریة غیر المبررة فی عهد عبدالناصر أمام التآمر العالمی، والدعم الکامل لإسرائیل، إلا أنها-أی مصر-کانت تسیر فی طریق المقاومة للاحتلال الصهیونی، وکانت تجر العالم العربی وجزءاً کبیراً من أفریقیا وآسیا وراءها، ولم یکن هناک قبول للأوضاع المهینة التی قبلتها مصر بعد حرب أکتوبر وإنتصار 1973 على إسرائیل، حیث بدأت الهزیمة والتآمر أثناء الحرب وبعده مباشرة.
وقد شاهدنا بکل حسرة وألم وندم، المحاثات- بعد الانتصار- عند الکیلو 101 غرب القناة، ولیس فی شرقها، کما کان ینبغی أن یکون فی حالة الانتصار، ثم شاهدنا زیارة السادات وسنظل نعانی منها حتى تهلک أو تعدل بشکل مقبول، وشاهدنا على أثر ذلک تفکک العرب وتفرقهم إلى فسطاطین ثم ثلاثة ثم عشرة، بعد إنفراط العقد وضیاع نتائج الاتفاقیات العربیة التی کانت حقیقة تهدد إحتلال إسرائیل لفلسطین وعدوانها وتقض مضجعهم، وبالذات إتفاقیة الدفاع العربی المشترک وإتفاقیة الخرطوم التی تعرف باللاءات الثلاث، لا للتفاوض، لا للصلح، وکذلک لا للاعتراف. وقد أصبحت اللاءات 'نعم' وصارت واقعاً مؤلماً کلها الیوم. ولربما فهم أو أدرک بعضنا مبکراً أنه من أسباب الحرب الیوم على سوریا أو الثورة فیها رغم عدالتها واستحقاقها للدعم، ذلک الموقف الممانع من إسرائیل والهیمنة الغربیة سابقاً، الذی تمثل فی الالتزام- فی الغالب- بتلک الاتفاقیات العربیة من دون معظم الدول العربیة.
وأنا متأکد تماماً أن الدکتور العریان، کان یقف دائماً فی صف المقاومة للعدوان الاسرائیلی على فلسطین والأمة بقناعة منه، وإتساقا مع موقف الحرکة الوطنیة والاسلامیة عموماً، وأنه کان ضد زیارة السادات التی زعم أنها للقدس وإتفاقیة کامب دیفید المشؤومة. لربما کانت تصریحات العریان مقبولة لو کان حق العودة مکفولاً للجمیع، وأن یکون ذلک الحق قائماً للفلسطینیین جمیعاً أولئک الذین هاجروا وأجبروا على الهجرة منذ حرب 1948، وبشرط ألا یتآمر الیهود الصهاینة على البلاد التی یعودون إلیها، لأن الفلسطینیین لم یتآمروا یوماً ما على الأقلیات بما فیهم الیهود الذین عاشوا فی فلسطین و مصر کأفضل من المواطنین الآخرین، ولکنهم أی الیهود العرب أو معظمهم قد تصهینوا أو أصبحت إسرائیل فی دمهم، وخصوصاً بعد الإعلان عن یهودیة الدولة والتآمر لطرد عرب 1948 أو عرب الخط الأخضر، خارج حدود دولة فلسطین التی تسمى الیوم ظلماً وعدواناً وغدراً بإسرائیل.
وفق تصریحات العریان التی لا ندری لها سبباً أو مناسبة، وهو أمر غیر معقول، فکم رأینا التآمر من جواسیسهم. ولو حدث ذلک وکانت العودة کاملة یظل الاحتلال لفلسطین- فی یقینی قائماً- وتظل'إسرائیل' دولة طارئة محتلة لبلادنا ومقدساتنا التی یجب أن ندافع عنها لتحریرها کاملاً. والأمم المتحدة لا تستطیع تغییراً للواقع. فکما یعلم العریان أن المقدسات لا تباع ولا تشترى، ولا تترک للمحتلین، وإلا نکون قد أقررنا المغتصب على ما اغتصبه، والمعتدی على عدوانه، وهو مالا یقبله عقل ولا شرع، ولم تقبله الحرکة الإسلامیة فی یوم من الأیام-على الأقل فی مصر والعالم العربی حتى الیوم- بل لم یستطع أحد أن یثیره على أی مستوى فی الحرکة الإسلامیة إلا أیام الرئیس مرسی ومکتب الارشاد الحالی الذی کان د. عصام العریان عضواً فیه قبل أن یصبح نائباً لرئیس حزب الحریة والعدالة 'الاسلامی' .
وکان یطمح العریان أن یکون رئیساً للحزب فی تنافسه مع الکتاتنی، ولا أدری إن کانت تصریحات العریان عن جهل، وهو الرجل المتعلم والمثقف والذی تربى فی دعوة الإخوان وعمل فی صفوف القیادة طویلاً، أم أنها عن سیاسة وهذا هو الخراب بعینه. فالسیاسة فی الإسلام تدور فی فلک الحق والعدل والمساواة والشورى، ولا تدور فی فلک النفاق العالمی أو قبول الهیمنة والاحتلال حتى لأراضی الغیر بالقوة، سواء کان هذا الغیر مسلماً أو غیر مسلم، لأننا نقرأ ونفهم یقیناً معنى قوله تعالى'وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ یُحِبُّ المُعْتَدِینَ' وندرک معنى قوله تعالى'(لا یَنْهَاکُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِینَ لَمْ یُقَاتِلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَلَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیَارِکُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَیْهِمْ إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ * إِنَّمَا یَنْهَاکُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِینَ قَاتَلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَأَخْرَجُوکُمْ مِنْ دِیَارِکُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِکُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ یَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِکَ هُمْ الظَّالِمُونَ). أنا لا أقول أن التصریحات تدل على الموالاة أبداً للیهود، ولکننی أقول أن التصریحات خطأ فادح فی حق مصر وفلسطین والقضیة أولاً وأخیراً.
هل یستنکر الإخوان تصریحات العریان؟ وهل یستنکر حزب الحریة والعدالة تصریحات العریان؟ هل یتبرأ الرئیس مرسی من تصریحات العریان وهو مستشار الرئیس وعضو فاعل فی الدستوریة وعضو فاعل فی الشورى کذلک؟ وهل تستنکر الشورى تلک التصریحات وتتبرأ منها أم أنهم مضطرون للقبول تحت أی ظروف وضغوط، وفق التأویل الخاطئ للقواعد الکلیة والأصولیة والفقهیة ومنها'الضرورات تبیح المحظورات'.
هناک-للأسف الشدید- من یحاول ان یخدع فی السیاسة کما کان هناک دائماً من یخدع فی الدین، فیحاول جاهداً أمام العجز وصعوبة العمل الجاد أن یهیئ ضرورات- تبیح له فی ظل العجز أیاً کان نوعه- أن یحتمی بالضرورات التی هیأها لنفسه وأن یستخدم المحظورات. ولکن الشروط فی إستخدام هذه القاعدة العظیمة التی جاءت للتیسیر بعد استنفاد الجهد اللازم، تفضح من یحاول سوء التأویل أو الاستخدام قبل توفر الشروط المطلوبة کاملة .
الأمة فی حالة حساسة، وهى فــــی غنى عن التخبط الذی عانت الأمة منه طویلاً، وکانت تتوق إلى إستقرار فی ضوء وصول الإخوان للسلطة بعد ثورة حضاریة عظیـــــمة لا تقبـــل تصریحات العریان أو من کان على هذه الشاکلة على أی حال أو تأویل، ومهما کان موقعه فی العمل السیاسی أما فلسطین وما یتعلق بها أو یؤثر فیها، فهى من القضایا المرکزیة للأمة کلها، ولا یملک جیل من الأجیال مهما کان ضعیفاً، أن یفرط فیها أو یتنازل عن جزء من ترابها.

' کاتب مصری