د. سعید الشهابی:

ربما استعاد شارع أبي نواس شيئا من حيويته بمقاهيه ومطاعمه وأشكال الترفيه الاخرى، ولكن شارع الرشيد، القلب التجاري النابض لبغداد سابقا، ما يزال مشلولا، بل انه ملفع بالكأبة، يشكو آلام التداعيات الاقتصادية والاجتماعية، ويعاني تراكم الاهمال واختلال الاولويات.
فقد اصبح الاقتصاد العراقي استهلاكيا بشكل شبه كامل، فكل شيء يستورد من الخارج، وعلى المواطن ان يدفع الاسعار الدولية في ظل اقتصاد كان حتى عهد قريب محميا ومعتمدا على بطاقات التموين ودعم السلع الاساسية. على امتداد الشارعين الشهيرين اللذين طالما تغنى بهما شعراء العراق وأدباؤه ومثقفوه، يعيش العراقيون حالة الترقب على امل الوصول الى بر الامان، الذي يختفي في لجج الارهاب والموت الرخيص، وتشهد البلاد فيه نماء وإعمارا بما يعيد للعراق حيويته وانسانيته.
ومن يتعايش مع العراقيين لا يملك الا ان يشاطرهم الهموم الكبيرة التي يعيشونها، واغلبها معيشي يومي، وبعضها سياسي فكري. فبعد اكثر من ثمانية اعوام على التغيير ما يزال هذا البلد العربي المسلم الكبير غير قادر على التمتع باستقلاله الكامل، وما يزال يعيش هواجس الاحتلال، رغم اصرار اهله على التحرر من تبعات الوجود الاجنبي وما نجم عنه من شعور دائم بالاعتماد على الغير في توفير أبسط مستلزمات الامن والاستقرار.
وزائر العراق اليوم لا يرى شيئا من مظاهر الوجود الامريكي الا القواعد التي تستقبل الزائر فور خروجه من المطار، اما الجنود والآليات فقد اختفت تماما من الشوارع، واصبح لدى هذا البلد جنوده وشرطته. ولكن ذلك لا يقلل من هواجس الساسة الذين اختلفوا على امور كثيرة، ولكنهم اتفقوا على ضرورة انسحاب الامريكيين من بلادهم في الموعد المحدد وفق اتفاقية 'سوفا' بنهاية العام الحالي. ومع انه من السابق لاوانه التكهن بمدى التزام واشنطن بهذا الموعد، الا ان إصرار العراقيين على الانسحاب في الوقت المحدد حقيقة لا تقبل النقاش. وهذا ما اكده رئيس الوزراء، نوري المالكي، في اجتماع التحالف مساء الخميس الماضي مؤكدا انه لن يسمح بالتمديد لذلك الوجود. ولذلك يتعمق القلق الشعبي من احتمال تصاعد اعمال العنف والتفجيرات الارهابية التي تحصد ارواح الآمنين.
ويكفي للتدليل على فظاعة ذلك ما شاهده كاتب المقال من تدمير هائل مساء الخميس الماضي عند منطقة 'الحصوة' التي استهدف فيها تجمع للتيار الصدري في إحدى الحسينيات بسيارة مفخخة. كان منظرا مرعبا للمارة الذين بدأوا يلتقطون بقايا الجثث والسيارات التي دمرها التفجير. وبعد يومين كانت مدينة كربلاء مشهدا لاربعة انفجارات حصدت ارواح 17 شخصا. انه مشهد يؤكد استمرار مسلسل العنف العبثي الذي لا يمكن ان يؤدي الى نتائج سوى الفوضى والاضطراب والحزن. مع ذلك يسجل لرئيس الوزراء نجاحه في احتواء ظاهرة العنف بشكل كبير، اذ انخفض عدد التفجيرات اليومية في بغداد من قرابة العشرين الى بضعة انفجارات في الشهر.
ان تحسن الوضع الامني لا يعني نجاحا مطلقا للحكومة. فبموازاة ذلك ثمة قضيتان جوهريتان اصبحتا عنوانا للشكاوى الشعبية المستمرة: الفساد وغياب الخدمات. ومع وجود مؤشرات واضحة لاحتواء الفساد الشخصي للمسؤولين بسببب التزام لجنة النزاهة بقدر من الانضباط وتطبيق القانون، فهناك ظواهر لهذا الفساد، من بينها عدم تنفيذ المشاريع الاعمارية التي تخصص لها موازنات كبيرة، وارجاع المبالغ المخصصة لها الى الخزينة، او تنفيذ المشاريع وعدم الالتزام بالمقاييس المهنية ومستويات الجودة المطلوبة. ومنها كذلك المبالغة في البيروقروطية الحكومية بخلق مناصب غير ضرورية تكلف الخزينة المركزية اعباء مالية كبيرة، والتفريط في املاك الدولة ببيعها باثمان زهيدة، الامر الذي التفت اليه رئيس الوزراء مؤخرا فاصدر قرارات باعادة النظر في الممتلكات التي تم بيعها واعادة تقييم الموجود منها بايدي الدولة.
هذه جميعا مظاهر للفساد المالي والاداري، وان كان ذلك ظاهرة لا تخص العراق وحده. يضاف الى ذلك حالة التبذير في السفرات الرسمية للمسؤولين. وعلى سبيل المثال ما ذكره النائب خالد العلواني مؤخرا من ان الايفادات والسفرات تعد هدرا للمال العام، مستشهدا بـ'ما ذكرته وسائل الاعلام عن أن السفرة الاخيرة لرئيس الجمهورية كلفت مليوني دولار، ومن خلال هذا المبلغ كان باستطاعتنا إنجاز اربعة او خمسة مشاريع خدمية تنفع المواطنين، بدلا من هدرها في هذا الايفاد'. ويمكن القول ان اكبر ما يمثل تحديا حقيقيا للحكومة تداعي الخدمات العامة، خصوصا في مجال الطاقة. فانقطاع الكهرباء بشكل متواصل أمر لا يستقيم مع بلد نفطي كبير، ويمثل واحدة من أشد الظواهر وطأة على نفوس المواطنين، خصوصا في اشهر الصيف.
ويمكن مشاهدة تبعات ضعف القوة الكهربائية بمعاينة الاسلاك الكثيرة التي اصبحت كالشباك المعلقة في الشوارع العامة والازقة. انها الاسلاك الممتدة من المولدات الصغيرة التي تسد جانبا من نقص الطاقة الكهربائية. واصبح واضحا انه ما لم يتم بناء محطات توليد كبيرة للطاقة فلن يمكن لعجلة الاعمار التحرك في المستقبل القريب. انه تحد كبير للحكومة التي تقول مصادرها ان مشكلة الكهرباء سوف تحل في غضون العامين المقبلين بعد توقيع اتفاقات مع الصين لبناء محطات توليد كبرى.
ولا يملك من يسير في شوارع المدن العراقية الاخرى الا ان يكتشف بعينيه ما حدث لهذا البلد الذي كان في طليعة البلدان العربية المتطورة من تراجع في البنية التحتية على نطاق واسع، بسبب الحروب والحصار والفساد المالي والاداري في العقدين الاخيرين.
وثمة سؤال عن الموقف الامريكي من الانسحاب، وما اذا كان يخطط لذلك ام انه واقع جديد فرض على واشنطن. ثمة عوامل ادت الى ذلك منها:
اولا: ان الاوضاع الامريكية الاقتصادية والسياسية والامنية ساهمت في اقناع ادارة اوباما بضرورة الانسحاب من العراق.
ثانيا: ان معاناة العراقيين على ايدي الارهابيين من جهة والامريكيين من جهة اخرى ساهمت في تبلور رؤية واضحة لدى الفرقاء السياسيين بضروة ذلك الانسحاب.
ثالثا: ان مقاومة العراقيين للوجود الامريكي ساهمت كثيرا في ذلك. فقد قامت المجموعات المسلحة العراقية على مدى الاثني عشر شهرا الماضية باكثر من 260 عملية عسكرية ضد قوات الاحتلال الامريكية، وفي مقدمة تلك المجموعات عصائب الحق وكتائب حزب الله واليوم الموعود.
رابعا: ان الامريكيين استنتجوا بعد تجارب مريرة ان وجودهم لا يلقى ترحيبا في العراق وان وجودهم على ارضها في المدى البعيد امر غير ممكن، وانه سوف يضاعف خسائرها من جهة ويؤدي الى خسارة نفوذها السياسي من جهة اخرى.
خامسا: ان الرئيس اوباما كان قد تعهد بعد صعوده الى الرئاسة بالانسحاب من العراق وافغانستان بأسرع وقت ممكن تجاوبا مع الضغوط المحلية المتفاقمة وعدم تحقيق نتائج عسكرية او سياسية ملموسة. مع ذلك بقي العراق لقمة تسيل اللعاب الامريكي وتضغط على مسؤولي البيت الابيض للبحث عن سبل للبقاء بعد انتهاء المهلة التي حددتها اتفاقية 'سوفا'.
وسعت الادارة الامريكية لذلك التمديد بالضغوط المتواصلة على الحكومة العراقية، بما في ذلك تصعيد اعمال العنف. وفي مقابل ذلك كانت المجموعات المسلحة الرافضة للوجود الامريكي تمارس عمليات عسكرية متواصلة ضد القوات الامريكية. واتهمت واشنطن ايران بتمويل تلك المجموعات، واصبحت تبحث عن حل لمسألة الوجود، ومن ذلك مد خيوط التواصل مع الجمهورية الاسلامية الايرانية. اما العراق فكان موقفه حاسما، اذ أصر على انسحاب القوات الامريكية في الموعد المحدد، وأبلغ رئيس الوزراء العراقي، السيد نوري المالكي المسؤولين الامريكيين، بذلك مؤخرا، ولذلك تجددت اعمال العنف ضد السلطة في بغداد، ومن المتوقع ان تتصاعد في الاسابيع والشهور المقبلة. الامر الواضح ان المسؤولين العراقيين، خصوصا الشيعة منهم، اصبحوا امام خيار صعب، وهم يتداولون الوجود العسكري الامريكي بشكل أكثر إلحاحا، الامر الذي جعل القضية عنوانا لتوحيد صفوفهم ولو الى حين. وفي الوقت نفسه ينظر العراقيون الى ساحات التغيير العربية من زاوية اخرى، مفادها انهم كانوا سباقين للتغيير في بلدهم. وكان بامكانهم تقديم انموذج جيد لبناء الدولة المدنية الحديثة المؤسسة على القانون على اساس المواطنة المتساوية وفق قاعدة 'لكل مواطن صوت'. ولكن انشغالهم باوضاعهم المحلية وانشغال السياسيين بشؤون الفئات التي ينتمون اليها، والعامل الامريكي في إحداث التغيير اضعف بريق التجربة الديمقراطية، خصوصا مع المحاصصة والوجود العسكري الاجنبي والارهاب. ولا يخفي العراقيون امتعاضهم الشديد من المملكة العربية السعودية التي تسعى لاجهاض تجربتهم من جهة وتشجيع العنف لمنع التئام شملهم كشعب متعدد الاديان والمذاهب. كما ان هناك غضبا متصاعدا بين المسؤولين والمواطنين تجاه الكويت التي يعتبرون سياساتها تجاه العراق عدوانية، وتتجلى مصاديقها في حرمان العراق من تشغيل طيرانه بشكل رسمي، وإصرارها على ابقاء العراق ضمن البند السابع بالامم المتحدة، واستمرار اقتطاع خمسة بالمئة من العائدات النفطية لما يسمى 'التعويضات' واخيرا اصرارها على بناء 'ميناء مبارك' في الشريط المائي الضيق الذي يفصل بين جزيرة بوبيان وشبه جزيرة الفاو، وما لذلك من اثر على الملاحة العراقية خصوصا ميناء الفاو المزمع انشاؤه.
عراق ما بعد التغيير يبحث عن هوية وطنية ما تزال صعبة التحقق، خصوصا مع استمرار العنف والمماحكات بين مكوناته الاثنية والمذهبية. وبغداد اليوم تحتاج الى نهضة تنموية تعيد الى المواطنين ثقتهم بنظامهم السياسي من جهة وتدفعهم للمساهمة في اعمار البلد الذي دمرته الحروب المتتالية وسوء السياسات المحلية من جهة اخرى. وما يزيد الشعور بالاحباط استمرار ظاهرة القتل العبثي، ومنها الاعتداء على باص عند منطقة 'النخيب' بمحافظة الرمادي ينقل زوارا عراقيين شيعة متجهين الى سورية، وذبح جميع رجاله الاثنين والعشرين.
وكادت تلك الحادثة تعيد مسلسل القتل، لولا تدخل رئيس الوزراء ومنع عشائر كربلاء التي ينتمي اليها الضحايا من القيام بأية ردة فعل. وساهم مجيء وفد كبير من الرمادي للاعتذار ومواساة ذوي الضحايا في احتواء الازمة. من هذا يستنتج من يزور العراق عددا من الامور: اولا هشاشة الوضع الامني رغم استلام العراقيين مهماته من الامريكيين، ثانيا: استمرار بعض المجموعات المدعومة من دول اقليمية خصوصا السعودية في اعمال العنف الطائفي للحيلولة دون استقرار الاوضاع، ثالثا: تطور الوضع الاجتماعي ايجابيا بحيث اصبح العراقيون، على اختلاف اطيافهم، قادرين على التعايش السلمي في ما بينهم، وافشال محاولات تمزيقهم وفق اسس عرقية ومذهبية، رابعا: تعمق الروح الوطنية بشكل مطرد، وتجسد ذلك برفض القوى السياسية التمديد للوجود العسكري الامريكي رغم ضغوط الرئيس اوباما على الحكومة العراقية. مع ذلك فان استعادة السيادة الوطنية من المحتل الامريكي لا تعني انتهاء ازمات العراق الداخلية، خصوصا مع تلكؤ مشاريع الاعمار والتنمية. فالمشروع الديمقراطي لم يحول البلاد بعد الى انموذج اقليمي يحتذى في التجربة الديمقراطية بسبب المحاولات الاقليمية والدولية لمنع استقراره ووضع العراقيل امام خططه التنموية ومشاريع توحيده ضمن منظومة سياسية متجانسة.
السياسيون العراقيون يطرحون رؤى طموحة لتجاوز المشاكل والازمات، وثمة رغبة لدى اغلب القوى بالتخلص من الاحتلال وتبعاته، خصوصا بعد ان اصبح لدى الجميع قناعة بان بلدهم تجاوز اخطر المؤامرات ضد وحدته، ومنها التقسيم والحرب الاهلية وديمومة الاحتلال. يشعر العراقيون جميعا بان هذه الاخطار الثلاثة لم تعد تقلقهم رغم استمرار محاولات القوى الخارجية اذكاءها. ولكن ثمة عقبات اخرى بالاضافة الى ما تمت الاشارة اليه حول ظواهر الفساد المالي والاداري التي كرسها الاحتلال، والتخندقات السياسية وفق اسس حزبية او فئوية، وحجم التركة الثقيلة من النظام السابق.
من المؤكد ان العراق ورث مجموعة كبيرة من المشاكل والازمات، ولكن في الوقت نفسه، عجز الساسة الجدد عن التصرف بمسؤولية. ان غياب الهوية العراقية التي تدفع الجميع للانصهار في بوتقة الوطن والعمل معا من اجل انهاض البلد واعماره عامل اساس في بقاء هذا البلد العملاق معطلا عن اداء دوره الاقليمي والدولي. لقد خطى العراق خطوات على طريق التخلص من كل ذلك، وبقي عليه ان يتخذ قرار التصالح الكامل مع النفس من جهة، والتعاهد على امور ثلاثة جوهرية من جهة ثانية: اولها اعادة الحيوية للهوية العراقية كاطار جامع لابنائه على اختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية والمذهبية والايديولوجية، وهو امر لو تحقق لدفع مشروع الاعمار مسافات طويلة الى الامام ولاستبدل حالة الاحتراب مع النفس بواقع تنموي حضاري شامل. ثانيها: اعتبار مرجعية الدستور حاكمة على ما سواها من الاعتبارات والموروثات السياسية والنفسية وما كرسه الاحتلال من فساد مالي واداري وسياسي، ثالثها: تكريس قيم التعاون والتصالح والتعايش والاحترام المتبادل، كل ذلك بالتناغم مع طروحات الاعمار والبناء ومكافحة كافة اشكال الفساد المالي والاداري، والحفاظ على ثروات البلد، وحمايته من التدخلات الاجنبية او الوصاية من اي طرف كان. لو تحقق ذلك لاستطاع العراق طي صفحة من أشد مفاصله التاريخية سوادا، ولتمكن من استعادة موقعه كبلد عربي مسلم قادر على تقديم مثل عملي في الممارسة الديمقراطية والتعايش السلمي ضمن اطر دستورية واضحة ومتفق عليها. عندئذ سيكون العراق الحليف الطبيعي لانظمة ما بعد الثورة الشعبية في البلدان العربية التي تشهد تحولا، وان بطيئا نحو الحرية والديمقراطية.
العراق كبير ليس بمساحته او ثرواته الطبيعية فحسب، بل بتجاربه وتطلعات ابنائه وانتصاراته على مؤامرات التقسيم والاحتلال والإفساد. لو ادرك قادته هذه الحقائق بنفوس منفتحة لاستطاعوا التغلب على التحديات المتواصلة لابقاء بلدهم خارج التاريخ، ولاستطاعوا إقامة حكم القانون، وهو الدعامة الاولى للدولة المدنية الحديثة في منطقة تفتقر لذلك ويصر حكامها على الانتماء للماضي وفق قيم البداوة والتخلف والاستبداد.

' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

4949

 

رمز الخبر 181243