٠ Persons
١٨ نوفمبر ٢٠١٢ - ١١:٠٩

د. عبدالوهاب الأفندی

يبدو أن تسونامي الثورات العربية قد وصل أخيراً إلى شواطىء الخليج الفارسي، حيث حل بساحل الكويت التي خرجت عن بكرة أبيها تطالب بما هو حق لكل شعوب الدنيا، وليس العرب بدعاً منهم، ولا عرب الخليج أقلهم شأناً. وقد يقال إن التسونامي وصل الخليج في أول أيامه، كما هو مشهود من حالة البحرين التي سبقت دولاً عربية أخرى كثيرة بانتفاضتها (وذكرتنا حكومتها بها هذا الأسبوع حين أعلنت منع كل التجمعات). ولكن حالة البحرين تشبه حالة ليبيا من قبل من حيث أن الثورة قمعت بحيث لم يعد من الممكن استمرارها إلا بالعنف أوالتدخل الأجنبي، أو كلياهما.

تختلف الكويت عن بقية دول الخليج، وحتى عن معظم الدول العربية الأخرى بأنها تمتعت بديمقراطية نسبية حتى قبل استقلالها، ولم يقع فيها ما وقع في البحرين من تعليق للدستور، كما لم تصبها جائحة الانقلابات. ومع كثرة تعطيل البرلمان، فإن دستورها ظل ساري المفعول. وعليه قد ظلت الكويت، رغم تراجع وضع الحريات فيها، أفضل بكثير من الدول التي صححت أوضاعها ثورات الربيع العربي.

مشكلة الكويت المزدوجه نبعت أساساً من وقوعها داخل منظومة إقليمية-دولية تتقاطع فيها مصالح حيوية، مما جعلها مسرح صراعات حول المواقع والموارد والمخاوف. وقد وجدت الأسرة الحاكمة أن من مصلحتها استغلال هذه التناقضات لإحكام قبضتها على السلطة، وتحجيم الديمقراطية الكويتية المحدودة أصلاً، فاستغلت مخاوف شركائها الخليجيين من عدوى الديمقراطية لتقوم بحل البرلمان ومخالفة الدستور أكثر من مرة، وتضييق مساحات الحرية بغية فرض سلطة العائلة، كما استقادت من الفائض النفطي لتخفيف وقع هذه الإجراءات.

ولكن هذه الاستراتيجية وصلت إلى طريق مسدود قبل أن ترتد عكسياً حين تفجرت سياسة اللعب بالتناقضات في وجه النظام، وقام العراق بغزو الكويت في عام 1990 بعد استفزازات كويتية متكررة. فجر الاحتلال الغضب الشعبي ضد الحكم، وحين قامت أمريكا بتحرير الكويت، لم يمكنها السماح بإعادة تنصيب نظام دكتاتوري، فاضطرت الأسرة إلى استعادة البرلمان الذي حل قبل الغزو، وفقدت الأسرة إلى الأبد خيار تعليق الدستور.

كان الغزو وتوابعه 'لحظة الحقيقة'، وإشعاراً بأن سياسة اللعب على التناقضات الدولية من أجل تجنب مواجهة حقائق الداخل قد بلغت مداها، وأصبحت مصدر خطر كبير. ولم يعد بإمكان الضامن الأمريكي، حتى قبل هبوب نسمات الربيع العربي، أن يقبل بحراسة هيمنة الأسرة. وفي ظل متغيرات داخلية كبرى، أبرزها نشأة أجيال جديدة متعلمة وواثقة من نفسها، وتفكك وضعف الأسرة الحاكمة وتدني مستوى قياداتها، لم يعد من الممكن التهرب إلى الأبد من مواجهة الواقع.

النظام السياسي الكويتي وصل إلى طريق مسدود منذ نهاية السبعينات، لأنه لم يقبل الانتقال إلى ملكية دستورية حقيقية ولم يعد بوسعه العودة إلى نظام ملكي مطلق. وعليه أصبح يدور في حلقة مفرغة: يسمح بانتخابات تأتي بممثلي الشعب إلى البرلمان، ثم ينفق كل الوقت والجهد الحكومي لمنع ترجمة الرغبات الشعبية إلى واقع. في كل ديمقراطية في العالم، يقوم البرلمان بانتخاب الحكومة وإقالتها إن لزم الأمر، ومساءلتها إن اتهمت بالتقصير، وهو أضعف الإيمان. أما البرلمان الكويتي، فهو لا يسمي الحكومة، ولا يحق له إقالتها، بينما مجرد طرح استجواب يعتبر عند الحكومة من الكبائر. فالحكومة تفضل الاستقالة على الرد على استجواب برلماني. وإذا كان هناك برلمان لا يستطيع حتى طرح سؤال على الحكومة، فما هي فائدة وجوده أصلاً؟

يبدو أن الأسرة الحاكمة في الكويت تلعب في الوقت الضائع وهي تحاول إعادة فرض حكم استبدادي مكشوف، أو على أحسن تقدير إعادة إنتاج السيناريو البحريني عبر إيجاد برلمان مدجن وإفراغ الدستور من محتواه، وهو تكتيك لم ينجح في البحرين، وفرص نجاحه معدومة في الكويت. ولعل أبلغ دليل على إشكالية هذه الاستراتيجية اعتماد النظام لأول مرة سياسة لم يعمد إليها حتى في أحلك الظروف في السابق، وهي اعتقال وإهانة النواب واستخدام العنف ضد أفراد الشعب. وهذا مركب خطر، إن لم يكن طريقاً انتحارياً.

النظام الكويتي ظل في وقت واحد نظاماً استبدادياً عاجزاً ونظاماً ديمقراطياً مشلولاً. وقد فشلت في الماضي كل محاولات تحويله إلى نظام استبدادي كامل الدسم، وفشل المحاولة الحالية محتم، ليس فقط لأن أمريكا لن تسمح بذلك، بل لأن الشعب الكويتي أعلن بوضوح لا مواربة فيه أنه لن يقبل. وعليه فإن الخيار الوحيد أمام الأسرة الحاكمة هو اتخاذ خطوات جادة نحو إقامة ملكية دستورية حقيقية، والاعتراف بأن استمرار الوضع على ماهو عليه لن يكون في مصلحة الكويت ولا المنطقة، لأن استقرار الكويت ضروري للجميع، وهو لن يتحقق إلا بالخروج من النفق المظلم والطريق المسدود الحالي.

ربما يكون من مصلحة الأسرة أن تأخذ زمام المبادرة عبر طرح خطة توافقية لتفعيل الديمقراطية الكويتية تؤمن الحراك التدريجي نحو ملكية دستورية، لأن هذا يمكنها من التحكم في مسار التغيير وتحديد وتيرته. وهذا هو المنهج الذي انتهجته الملكيات الأوروبية التي نجحت في البقاء حتى اليوم، حيث واءمت نفسها مع التغيرات واعترفت بها. أما تلك التي قاومت وعاندت، فقد كان نصيبها الاندثار والهلاك العنيف. والبديل في الكويت هو أن تفرض التغييرات بضغط الداخل والخارج، وهو أمر قد لا يخدم الاستقرار على المدى القصير.
 

رمز الخبر 183704