سعید الشهابی

خبرأونلاین-فی مثل هذه الایام قبل عامین کانت البحرین تعیش الاصداء الحزینة لدخول القوات السعودیة اراضیها، وما صاحب ذلک من ردود فعل متباینة ونتائج ما تزال تثیر اللغط فی الاوساط المحلیة والاقلیمیة. استقبل الشعب تلک المناسبة باحتجاجات سیاسیة واضرابات عمالیة للتأکید على رفض ذلک التدخل الذی لم تقدم حتى الآن تبریرات مقنعة لحدوثه برغم وضوح الدوافع التی ادت الیه والظروف السیاسیة التی کانت المنطقة العربیة تمر بها آنذاک. ففی ذروة 'الربیع العربی' کان شعب البحرین ثالث الشعوب العربیة التی قررت الثورة على حکامها بعد عقود من الرکود السیاسی الذی صاحبه عهد اسود من الاستبداد وانتهاک حقوق الانسان على اوسع نطاق.
الخلیجیون برروا ذلک التدخل الذی تم فی الساعات الاولى من صباح الرابع عشر من مارس بانه جاء بناء على طلب حکومة البحرین وانه کان یهدف لحمایة المنشآت الحیویة، ولیس مواجهة الاحتجاجات الداخلیة. لکن البحرانیین یؤکدون ان تلک الخطوة ساهمت بشکل مباشر فی عدد من النتائج الکارثیة: اولها الاعتداء الدموی بعد یومین من دخول القوات السعودیة على المحتجین الذین کانوا مرابطین بدوار اللؤلؤة الذی اتخذته ثورة البحرین منطلقا لها. وقد قتل العدید من المواطنین فی ذلک الاعتداء الذی صورته عدسات الاعلامیین الدولیین.
ثانیها: ان هذا التدخل ساهم بشکل مباشر فی هدم اکثر من اربعین مسجدا، وهی خطوة ساهمت فی تعزیز اسباب الثورة وزادت الوضع تأجیجا. فاستهداف دور العبادة عامل استفزاز للضمیر الانسانی، اینما حدث، بغض النظر عن الاختلافات الدینیة او المذهبیة.
ثالثها: ان هذا التدخل العسکری ادى کذلک الى عدد من الاجراءات القمعیة ومنها اعتقال قادة الثورة وطرد اکثر من خمسة آلاف مواطن من وظائفهم. کما اعتقل الاطباء والممرضون (رجالا ونساء) والریاضیون والمعلمون والصحافیون، الامر الذی عمق الاصرار على الاستمرار فی الثورة.
رابعها: ان هذا التدخل کان خطوة مدروسة من قبل قوى الثورة المضادة للاجهاض على بقیة الثورات لاحقا، وهذا ما حصل. خامسها: ان هذا التدخل أسس للطائفیة سلاحا یستخدم لتفتیت القوى الشعبیة لمنع بلورة موقف وطنی او قومی شامل ضد الاستبداد والتبعیة. سادسها: ان الاجتیاح العسکری السعودی صاحبه اعلان حالة الطوارىء وفرض الاحکام العرفیة، فتم التصرف مع المواطنین بقسوة غیر مسبوقة، کما یفعل المحتلون عادة مع سکان الارض الخاضعة للاحتلال. وبرغم وجود قوانین دولیة تنظم هذه العلاقة الا ان مراعاتها لم تکن اولویة لدى القوات السعودیة. سابعها: ان التدخل لم یکن لیحدث بدون موافقة انکلو - امریکیة بعد ان اتضح ان العالم العربی یسیر باتجاه تحرری قد لا یخدم مصالح الغرب.
حدث التدخل، وقمعت ثورة شعب البحرین، وقتل الضحایا، ولکن السؤال: هل حقق ذلک التدخل ما یهدف الیه؟ لا شک ان دخول قوات 'درع الجزیرة' ساهم فی استعادة حکم عائلة أل خلیفة معنویاته التی هبطت کثیرا بسقوط نظامی مبارک وبن علی، وتوسع نطاق الاحتجاجات حتى وصلت الى مشارف قصر 'الصافریة' الذی یقطنه الحاکم. وسیظل النظام مدینا لهذا التدخل السعودی الى الابد، لانه ساعده على استعادة سلطته. ولکن، برغم ما حدث، فقد بقیت ثورة البحرین مستمرة حتى الیوم. عامان بعد التدخل السعودی، وما یزال الحراک الثوری یعصف بالبحرین بدون تراجع. ویعتقد بعض المحللین ان استدعاء القوات السعودیة ساهم فی نشوء حالة استقطاب سیاسی ومذهبی فی هذا البلد الصغیر الذی لا یستطیع ان ینفصل عن محیطه الاقلیمی من حیث التأثیر والتأثر. وثمة اعتقاد کذلک بان الاجتیاح دفع الثوار لتصعید مطالبهم، فاصبحوا اکثر اصرارا على احداث تغییر جذری فی منظومة الحکم. ولم یساهم فی التخفیف من ذلک سیاسات الحکم العامین الاخیرین وصدور تقاریر دولیة عدیدة تدین ممارسته وتطرح علیه توصیات یصعب على النظام تنفیذها. ومن هذه التوصیات الغاء ظاهرة منح الحصانة لمرتکبی جرائم التعذیب والقتل العمد او اهانة المواطنین وتعذیبهم علنا. وبالتالی فمن الصعب الحکم على مدى فائدة التدخل العسکری السعودی للبحرین، خصوصا بلحاظ مسألة اخرى لا تقل اهمیة. فقد ادت الظاهرة
الثوریة فی البحرین الى انتشارها الى البلدان المجاورة، برغم وجود القوات السعودیة على اراضیها. فبالاضافة لانتفاضة المنطقة الشرقیة من الجزیرة العربیة، تشهد مدن نجد، وهی مرکز نفوذ العائلة السعودیة، حراکا غیر مسبوق یتمثل بالاحتجاجات الیومیة فی مدن الریاض والقصیم وبریدة والجوف، یقوم بها اقرباء السجناء السیاسیین الذین یقدر عددهم بأکثر من عشرة آلاف مضى على بعضهم
اکثر من عشر سنوات وراء القضبان. ویقول البحرانیون ان الاجتیاح العسکری السعودی لم یفشل فی قمع ثورتهم فحسب بل انه ادى الى 'تصدیر الثورة' الى المدن
السعودیة والکویت وغیرهما.
ولکن ماذا عن شرعیة التدخل العسکری السعودی فی البحرین؟ فی الاسبوع الماضی تحدث البروفیسور جوشوا کاستالینو، عمید کلیة القانون بجامعة میدلسکس فی لندن، فی ندوة حول الاجتیاح السعودی للبحرین، وطرح خمسة عناوین اساسیة: مبدأ السیادة الذی یعنی حق الدولة فی بسط سلطتها على البلاد وحقها کذلک فی طلب الدعم الخارجی فیما لو تعرضت البلاد الى خطر خارجی. وطرح مبدأ حق تقریر المصیر، مشیرا الى ان عدد دول العالم الیوم وصل الى اکثر من 200 دولة مقارنة بـ 51 دولة عندما تأسست الامم المتحدة، وذلک بسبب اعطاء الشعوب حق تقریر مصیرها. وتحدث عن التدخل الخارجی المشروط بان یکون بهدف تقدیم المعونة الانسانیة، وکثیرا ما عبرت الامم المتحدة عن قلقها ازاء احتمال استغلال تدخل الدول لزیادة نفوذها. البروفیسور کاستالینو قال ان مجزرة رواندا قبل حوالی 20 عاما دفعت الامین العام للامم المتحدة آنذاک، کوفی عنان، لطرح مبدأ 'مسؤولیة حمایة الشعوب'. وقال ان هذا الحق یعنی حمایة الشعوب ولیس الانظمة، وبالتالی فان التدخل السعودی العسکری لا یستند الى شرعیة مستمدة من القانون الدولی. وتحدث
عن حق الشعوب فی الامن وعدم جواز سلبها ذلک الامن، وما حدث فی البحرین سلب الشعب الامن الذی یستحقه. وکان النظام البحرینی قد روج مقولة ان قوات درع الجزیرة لیست محتلة، بل جاءت تلبیة لطلب من حکومة البحرین وفقا لمیثاق مجلس التعاون الخلیجی حول الامن المشترک. ولکن التصریحات التی صدرت عن زعماء مجلس التعاون عند تأسیس قوات درع الجزیرة اکدت على ان هذه القوات لن تستخدم للقمع الداخلی بل لمواجهة الاعتداءات الخارجیة. ولذلک فاستدعاء هذه القوات لم یستند الى میثاق التعاون العسکری بین دول مجلس التعاون، بل الى قرار بین الحکومتین السعودیة والبحرینیة یهدف بشکل واضح لمواجهة الثورة الداخلیة ضد نظام الحکم. وهذا ما اکده وزیر خارجیة دولة الامارات خلال لقائه بوزیرة الخارجیة الامریکیة السابقة، هیلاری کلینتون. فقد اکد ان دخول القوات السعودیة والاماراتیة للبحرین جاء بطلب من حکومة البحرین لمواجهة المصاعب التی تتعرض لها، ای الثورة الداخلیة. فاستخدام قوات درع الجزیرة لمواجهة ثورة شعب یناضل من اجل حقوقه ظاهرة خطیرة ستؤثر على بقیة شعوب دول مجلس التعاون التی ستتعرض للامر نفسه فیما لو حدثت نفسها بالتحرک المیدانی للمطالبة بحقوقها المشروعة.
وثمة بعد آخر للتدخل السعودی فی البحرین یرتبط بمواقف الدول الغربیة، خصوصا امریکا وبریطانیا. فالواضح ان حکومتی البلدین کانتا على علم بالاجتیاح السعودی. فقد کان روبرت غیتس، وزیر الدفاع الامریکی السابق یلتقی المسؤولین فی المنامة فی 14 مارس، ای قبل یومین من الاجتیاح، فهل من المعقول انه لم یکن على علم بما سیجری خصوصا ان اختراق الحدود بین البلدان امر خطیر کثیرا ما ادى الى نزاعات مسلحة وحروب خطیرة. بل ان من اخطر الحرب التی شنتها امریکا بسبب اختراق الحدود الدولیة بین البلدان حدث بعد دخول القوات العراقیة الاراضی الکویتیة فی 2 اغسطس 1990. اعتبر ذلک التدخل احتلالا وشنت اکبر حرب تکنولوجیة فی التارخ الحدیث، ارتکب خلالها من جرائم الحرب ما لا یحصى. ذلک
الاختراق احدث بلبلة فی الاوساط الدینیة عندما اقر 400 من علماء الدین اجتمعوا فی مکة (من بینهم فضیلة الشیخ یوسف القرضاوی) جواز الاستعانة بالقوات الاجنبیة لضرب العراق. فما الفرق بین الحالتین؟ فی الاولى اخترقت القوات العراقیة الحدود مع الکویت فاصبح جائزا الاستعانة بامریکا وبریطانیا لشن الحرب ضد العراق، وفی الحالة الثانیة اخترقت القوات السعودیة الحدود بین البلدین وشارکت فی قمع ثورة الشعب، خارج الاطار الدولی او القانونی. التدخل السعودی جاء لضرب ثورة سلمیة استمرت شهرا کاملا بدون ان یحدث خلالها ای خلل امنی، او ان یکون لذلک التحرک ای بعد مذهبی بدلیل مشارکة الجمیع (سنة وشیعة) فی الحشود الکبیرة بدوار اللؤلؤة، وبدون ان یشیر احد الى دور ایرانی فی تلک الثورة. ولکن بعد تدخل القوات السعودیة انقلب کل شیء، وطرح المشروع الطائفی کسلاح لیس بوجه ثورة البحرین فحسب، بل ضد کافة الثورات العربیة التی اطاحت بالدیکتاتوریین. ولتبریر التدخل السعودی بالغت قوى الثورة المضادة فی التحدث عن الدور الایرانی، ولکن لجنة تقصی الحقائق التی تم تشکیلها لاحقا برئاسة الدکتور شریف بسیونی، اکدت بشکل لیس فیه لبس او غموض عدم وجود دور ایرانی فی الحراک البحرانی.
ما الذی یفهم من ذلک التدخل العسکری؟ لقد کان ذلک بدایة لعصر الفتنة التی اصطنعت على اوسع نطاق والتی اثیرت فیها الاختلافات الدینیة والمذهبیة کسلاح ضد الثورات. السعودیون ارتجفوا کثیرا بعد سقوط مبارک وبن علی وشعروا ان انتصار الثورات یهدد المنظومة السیاسیة بمنطقة الخلیج. شعر السعودیون ان امریکا متأرجحة فی موقفها مما کان یحدث فی المنطقة من غضب شعبی یهدف للتغییر. ویبدو ان ثمة اتفاقا حصل بین التحالف الانکلو امریکی ودول مجلس التعاون بان هذه الدول تخوض حرب وجود مع الثورات العربیة، وانها سوف تتخذ ما تراه من اجراءات لمنع التغییر من الوصول الیها. ولا تقل ثورة مصر من حیث انعکاسها على الوضع الخلیجی عن ثورة البحرین، فکلتاهما مصدر لتأجیج الوضع ضد الانظمة السیاسیة التقلیدیة، خصوصا بعد ان تصاعد الدعم الشعبی العربی وانتشت روح
الجیل الشاب بمسیرات التغییر فی القاهرة وتونس والیمن والمنامة. فانطلق تحالف
الثورة المضادة لاخماد شعلة الثورة الحقیقیة، وبدأ ذلک بالتدخل العسکری السعودی فی البحرین. وفی هذه الحرب اصبحت الامکانات المتاحة سلاحا فی ما یعتبره النظام
السیاسی 'معرکة مصیریة' مع قوى التغییر فی المنطقة. وشیئا فشیئا، استعاد ذلک التحالف قوامه، وبدأ الهجوم المضاد ضد مشاریع التغییر الثوری فی کافة الدول التی حدثت فیها حراکات شعبیة جادة. واصبح المال النفطی واحدا من اقوى الاسلحة خصوصا بلحاظ الاوضاع الاقتصادیة المتداعیة فی الغرب وحاجته للمال لتخفیف آثار الکساد الشدید الذی اوقف النمو الاقتصادی فی اغلب دوله. واصبحت السعودیة وحلفاؤها قادرین على مساومة الغربیین، او على الاقل 'تحیید' ما ابداه بعضهم من
اندفاع فی الاسابیع الاولى بعد انطلاق الثورات لدعمها ورفع لواء حقوق الانسان. کان المال النفطی قادرا على تحیید تلک القوى. ونظرا للحالة الدینیة المهیمنة على الوضع العربی، اصبحت 'الطائفیة' سلاحا آخر بایدی قوى الثورة المضادة، فاستخدمتها فی البحرین اولا، ثم وسعت مداها لتشمل بقیة الاطیاف الدینیة المختلفة. فاستهدفت مساجد الصوفیة فی مصر وتونس ومالی، وبالامس حرقت کنیسة فی لیبیا. وفی مصر حدثت اضطرابات مع المسیحیین. وهکذا اصبحت 'الفوضى الخلاقة' سلاحا ثالثا لمنع التوافقات الوطنیة حول اجندات التغییر الثوریة. بل ان الحکومات المنتخبة فی تونس ومصر اصبحت هی الاخرى تتعرض للضغوط المتواصلة لابعادها عن المسار الثوری واشغالها بالاحتیاجات المادیة للمواطنین، ومساومتها على مواقفها فی مقابل دعمها بالمال وبقیة انواع المساعدات المالیة. وما لم یتم استیعاب دوافع الاجتیاح العسکری السعودی للبحرین، ویتم التخلص من المقولات المذهبیة والدینیة الهادفة للتفریق والتمزیق، فستظل القوى الثوریة مشغولة بالفوضى الفکریة والمنطق الاعوج الذی یهدف لابقاء الامة منقسمة على نفسها، وتائهة فی فضاءات الفرقة والشتات والسذاجة فی التفکیر وضحالة النظرة السیاسیة. وحدها ثورة البحرین ترکت فی میدان النضال تناکف قوى الثورة المضادة دفاعا عن اطروحة التغییر ورغبة فی استعادة السیادة على الاوطان، وتأکیدا على ضرورة تحریرها من قوى الاستبداد والاحتلال. لقد اصبح ضروریا استیعاب الاجتیاح السعودی ضمن التحالف غیر المقدس بین قوى الثورة المضادة، لکی یمکن تقدیم وجه ناصع حسن للرأی العام العربی والاجنبی، وهو من أشد ما یحتاجه تحالف الثورات فی الوقت الحاضر.
 
' کاتب وصحافی بحرینی یقیم فی لندن

رمز الخبر 184848