فی کتابها «الحرب الباردة الثقافیة» تؤکد الکاتبة فرانسیس ستونر سوندرز أن صناعة الثقافة فی الولایات المتحدة الأمیرکیة هی من صلب الأعمال والمهام التی تقوم بها وکالة الاستخبارات المرکزیة الأمیرکیة.



 

تتحدث الکاتبة البریطانیة بالتفصیل فی کتابها عمّا تسمیه «الترسانة الثقافیة» لواشنطن والتی تتکون من الصحف والمجلات والإذاعات والمؤتمرات ومعارض الفن التشکیلی والمهرجانات الفنیة والمنح والجوائز والسینما أیضا. فهولیوود وصناعة السینما هی من الأسلحة الثقافیة الثقیلة فی حرب أمیرکا الثقافیة الناعمة.

تکثر الدراسات التی تتحدث عن التناغم إلی حد التماهی بین أنواع الأفلام التی تنتجها هولیود وبین مسار السیاسة الأمیرکیة. لکل مرحلة أفلامها ولکل موقف سیاسی أبطاله السینمائیون وسیناریوهات تتحول إلی أفلام لتروج للأفکار الأمیرکیة المطلوبة ولما بات یعرف بـ «القرن الأمیرکی».

آخر انتاجات هولیود التی لا یمکن فصلها عن هذا المسار هی فیلم «القناص» الأمیرکی للمخرج والممثل الأمیرکی المعروف کلینت ایستوود. الفیلم هذا نجح فی تحقیق إیرادات ضخمة منذ الأسابیع الأولی للعرض وحاز علی خمس ترشیحات جوائز الأوسکار. وهو یحکی قصة قناص أمیرکی لم یتردد فی ممارسة مهنته وهی قتل العراقیین بدم بارد بحجة تنفیذه للأوامر العسکریة. فی مقابل البطل الأمیرکی یظهر فی الفیلم القناص العراقی الصامت فی معظم المشاهد. وعلی الطریقة الأمیرکیة ینجح القناص الأمیرکی بقتل غریمه العراقی.

إذن هی من وجهة النظر الأمیرکیة «قصة وطنیة لبطولة أمیرکیة» کما قالت الصحف هناک.. قصة لا تخرج عن معادلة هولیود المفضلة. «الخیر الأمیرکی مقابل شر الآخر». والآخر هذه الأیام ومنذ انهیار الاتحاد السوفیاتی هو العربی والمسلم. والحق یقال فان هولیود أبدعت فی هذا المجال کمًا ونوعًا واستطاعت منذ تسعینیات القرن الماضی أن تشیطن صورة أعدائها وان تعطی «شرعیة» لمحاربتهم والقضاء علیهم.. فهی صاحبة خبرة طویلة فی هذا المجال. تکفی تجربتها مع الهنود الحمر ونجاحها فی إبادتهم فعلیا وثقافیا مستخدمة حروبها الصلبة وکذلک الناعمة.

فیلم «القناص» احد حلقات الحرب الناعمة التی تشنها واشنطن دون هوادة هذه الأیام . یأتی الإنتاج السینمائی الأخیر فی توقیت سیاسی تحتاجه الإدارة الأمیرکیة لتکثیف الرسائل التی تضمنها الفیلم .

عبد الرحمن الجاسم الناقد الفنی یؤکد علی هذه الفکرة ویشیر إلی أن 'السینما فی هولیود موجهة بدقة ولا تخرج الانتاجات السینمائیة عن الخطط السیاسیة والعسکریة والدعائیة الأمیرکیة.. فیلم «القناص» لا یخرج عن هذا السیاق'.

یلفت الجاسم إلی أن إنتاج الفیلم وعرضه یأتی بالتزامن مع حملة دعائیة داخل الولایات المتحدة الأمیرکیة 'لتشجیع الشباب الأمیرکی للانخراط فی جیش بلادهم '. ویشیر إلی أن التعویل علی الفیلم کبیر إلی درجة أن 'وسائل الإعلام الأمیرکیة استضافت زوجة الجندی الذی استند الفیلم إلی قصته الحقیقیة والتی دونها ضمن کتاب عن سیرته الذاتیة'.

وعلی قاعدة لکل مرحلة سیاسیة أفلامها التی تساهم فی الاستیلاء علی قلوب الأمیرکیین والتلاعب بعقولهم وقولبة الرأی العام الأمیرکی للانضباط فی السیاسات الأمیرکیة.

لا یفصل الجاسم الفیلم عن الظروف السیاسیة الحالیة وعن حالة عدم الرضا والامتعاض الشعبی الأمیرکی من التدخل العسکری لبلادهم فی أکثر من منطقة فی العالم. الفیلم یأتی لیلعب علی الوتر الحساس. یدفع الرأی العام للتعاطف مع الجنود والتفکیر بتضحیاتهم والتشبه بهم لناحیة تنفیذ أوامر القادة والمسؤولین. فبطل الفیلم أی «القناص» عبر عن هذه النقطة مستخدما لغة وعبارات وطنیة رنانة فی الحوارات التی دارت بینه وبین زوجته التی کانت تطالبه بالعودة إلی أسرته.

عند هذه الحوارات یتوقف الناقد السینمائی اللبنانی محمد حجازی. هو شاهد الفیلم من زاویة مختلفة. یعتبر حجازی أن الفیلم 'لا یؤید وجهة نظر السیاسیة الأمیرکیة. إنما یعکس جو الحراک والمزاج الشعبی الأمیرکی الرافض للانخراط فی الحروب الأمیرکیة '. یستند حجازی إلی حوارات «القناص» مع زوجته التی تطالبه بالبقاء فی البیت وترک ساحات المعارک. تبدو الزوجة فی الفیلم بحسب حجازی 'خائفة من الحروب ورافضة لمشارکة زوجها فیها'.

رغبة الزوجة هی عودة أمیرکا إلی الداخل بعیدًا عن التدخل فی شؤون الدول الأخری. من هنا یری حجازی أن فیلم «القناص» 'یحاول أن یقول ویعبر عن وجهة النظر المدنیة الأمیرکیة المناهضة للحروب'. حتی نهایة الفیلم عندما قتل القناص الأمیرکی فی نیویورک علی ید زمیل له یعانی من اضطرابات ما بعد الحرب معطی إضافی یؤکد من خلاله حجازی علی وجهة نظره.

لا یبرئ حجازی فی قراءته هذه هولیوود. هو یدرک من خلال خبرته الطویلة فی النقد السینمائی الأبعاد السیاسیة للنتاجات السینمائیة الأمیرکیة. لکنه یعتبر أن رفض الانخراط فی الحروب والترویج لها قد یناسب الإدارة الأمیرکیة الحالیة وتوجهاتها.

بدوره الجاسم یفضل الترکیز علی أفکار أخری وردت فی الفیلم ویعتبرها أساسیة ومفصلیة وعندها تکمن الرسائل الأساسیة للمنتجین. 'الصورة التی ظهر فیها العراق لا یمکن تجاهلها. العنصر الأساسی المکون لهذه الصورة هو القناص العراقی الصامت الذی یمثل «الشر والتوحش».

یلفت الجاسم إلی أن الفیلم عند هذه النقطة 'یخاطب جزء کبیر من الشعب الأمیرکی الذی لا یعرف شیئا عن الخارج والذی سیکون صورته الخاصة عن العراق والمنطقة والعرب والمسلمین من خلال شخصیة القناص العراقی'.

یضیف الجاسم ویحسم بان الفیلم 'یشجع علی القتل والعنف ضد المسلمین لا بل یمجد القتل'. فبطل الفیلم هو أداة قتل حتی لو کان ینفذ أوامر قیادته. هذا القناص کان یزرع الموت فی بلاد احتلها. هو قتل 140 ضحیة بدم بارد ودون أی تردد. وتحویل هذه الشخصیة إلی «بطل ونموذج وطنی» للشباب الأمیرکی، 'دعوة مباشرة لتشجیع وتعمیم السلوک الإجرامی تجاه المسلمین والعرب'.

رمز الخبر 188222