٠ Persons
٢٣ أغسطس ٢٠١١ - ١١:١٠

ثمة، لدى مجموعات واسعة من المعارضین السوریین فی الخارج، شراهة لعقد المؤتمرات واللقاءات والاجتماعات التشاوریة، لا تبدو مفرطة فحسب؛ بل هی أفرزت وتفرز ظواهر مَرَضیة، حالها فی ذلک حال أیة تخمة منافیة لطبائع الأمور. من بروکسیل ـ 1، إلى أنطالیا، إلى بروکسیل ـ 2، إلى اسطنبول ـ 1، إلى اسطنبول ـ 2، إلى برلین، إلى اسطنبول ـ 3...

النوایا، فی نفوس غالبیة المشارکین، طیبة ومخلصة ونزیهة، عینها على الوطن، وقلبها على الشعب، وفی رأس أهدافها مساندة الإنتفاضة بشتى الوسائل، ثمّ الحرص على الوحدة الوطنیة، وقبلها حرص مماثل على توحید صفوف المعارضة، وسوى هذا وذاک من أهداف تحظى بإجماع عریض، کما یتضح من المداولات والأدبیات فی أقلّ تقدیر. هنالک، أیضاً، ذلک الحرص الشدید على إظهار هذه المؤتمرات واللقاءات وکأنها تمثّل 'جمیع أطیاف المجتمع السوری'، حسب العبارة التقلیدیة؛ فلا یتردد مؤتمر فی تفصیل انتماءات المشارکین الإثنیة والدینیة والطائفیة والعشائریة، أو یتفاخر مؤتمر آخر بإعلان هویات سیاسیة أو فکریة، علمانیة وإسلامیة ولیبرالیة ویساریة!

ذلک کله یبدو للوهلة الأولى جمیلاً، ضروریاً، مفیداً، وصیغة أخرى فی العمل الوطنی ینبغی أن تکمل الإنتفاضة فی الداخل، أو تتولى تمثیلها فی الخارج؛ لولا أنّ المشکلة تکمن هنا تحدیداً: هل تکفی النوایا الطیبة، أیاً کانت مقادیر الطهر فی مقاصدها، لکی یزعم هذا المؤتمر أو ذاک أیة صیغة تمثیلیة حقّة، وفعلیة قائمة على أسس دیمقراطیة فی الحدود الدنیا، تسمح للمشارکین بالذهاب بعیداً، وأبعد ممّا ینبغی، إلى درجة تشکیل 'مجلس إنقاذ' أو 'مجلس وطنی'؟ الإجابة التی یفرضها السلوک الدیمقراطی الأبسط، هی: کلا، بالطبع، فالنوایا الطیبة لا تنیب بصفتها المجرّدة هذه؛ ولیس لحاملها، أیاً کانت خصاله ومصداقیته، أن یأنس فی نفسه حقّ تمثیل الناس لمجرّد أنه مخلص نزیه حریص على الإنتفاضة والشعب والوطن.

ثمّ إذا کان المواطن المتظاهر فی ساحات وشوارع سوریة یخرج من داره وهو مشروع شهید، فی الواقع الفعلی ولیس فی المجاز، یحمل دمه على کفّه، أو تُختزل روحه فی حنجرته، من أجل نظام فی التمثیل الدیمقراطی لا یصادر صوته ولا یزوّر إرادته؛ أفلا یتوجب على المعارضین السوریین فی الخارج أن یقدّموا القدوة الحسنة فی هذا المضمار، سیّما وأنّ شروط التمثیل الإنتخابی السلیم متاحة تماماً أمامهم، إذْ یعیش معظمهم فی ظلّ دیمقراطیات غربیة تکفل حرّیة الاجتماع؟ هل یجوز تنظیم مؤتمر طویل عریض، یتنطّح لقضایا کبرى شائکة، لکنه لا یستند إلى قواعد تمثیلیة واضحة، بل یعتمد مبدأ 'أهلا وسهلا بلّی جای'، أو خیار 'مؤتمر بمَنْ حضر'، أو المشارکة وفق تلک البدعة العجیبة التی اسمها 'عضو مراقب'، أو 'عضو ضیف'؟ ولا ینسى المرء بؤس تلک الریاضة القائمة على تلمیع المؤتمرات عن طریق إبراز 'أعضاء نجوم'، من قادة أحزاب مهجریة، أو أکادیمیین طنّانی الألقاب، أو نزلاء مزمنین على الفضائیات.

مَنْ فوّض مَنْ؟ متى، وأین، وکیف؟ لیست هذه علامات استفهام وسؤال وتساؤل، بل هی نقاط نظام وانضباط ومساءلة. ومع استثناءات قلیلة، لم یحدث أنّ تنسیقیات الداخل، أو أحزاب المعارضة التی تحترم شعبها ونفسها، أرسلت مندوبیها إلى أیّ من المؤتمرات، ضمن أیة صیغة مقبولة من التمثیل الدیمقراطی على أسس قاعدیة. کان العکس هو الذی یحدث، بصفة عامة، رغم حرص الجمیع على عدم الذهاب بالتحفظ إلى مستویات العلن (وهذا، فی یقینی، خلل سیاسی وأخلاقی لا یلیق بشهداء یتساقطون بالعشرات، کلّ یوم). ولدینا مثال حدیث العهد، صدر بالأمس فقط، هو تحفظ 'الهیئة العامة للثورة السوریة' على تکاثر المؤتمرات، والحثّ على 'تأجیل أی مشروع تمثیلی للشعب السوری'.

وأرى واجباً علیّ، لکی لا یبدو موقفی منفصلاً عن السلوک الشخصی العملی، الإشارة إلى إنّ هذه الاعتبارات جعلتنی أعتذر فی الماضی، وسأعتذر فی المستقبل، عن حضور أیّ مؤتمر ولقاء وملتقى یُعقد فی الخارج دون أسس تمثیلیة دیمقراطیة صریحة وملموسة. ومن الإنصاف التفکیر بأنه إذا بات صعباً على السوری ـ المسیّس، المثقف، والمتابع ـ أن یفرز هذا المؤتمر من ذاک، ویمیّز ماهیة 'مجلس الإنقاذ' بالمقارنة مع 'المجلس الوطنی'؛ فهل من الغرابة أن تضیع 'الطاسة' على الشعب السوری، فی مختلف شرائحه الاجتماعیة والسیاسیة الأعرض؟

وفی مقام آخر، هو الأهمّ ربما، هل یُلام المتظاهر، الخارج من بیته فی طریق مستقیم نحو احتمال الشهادة، إذا اکتفى بعبارة مجاملة من نوع 'یعطیکم العافیة یا جماعة'، یرسلها لأخوته السوریین المصابین بشراهة المؤتمرات الخارجیة؛ ثمّ أدار ظهره، بأدب جمّ لا ریب، وانخرط فی تظاهرة حاشدة تستشرف المستقبل وتهتف للوحدة الوطنیة وتنادی بسقوط النظام، حیث الطاسة... لیست ضائعة أبداً؟

رمز الخبر 169298