خبر اونلاین: یبدو من المبکر الرکون للانطباع السائد خارج السعودیة ومؤداه أن المملکة قد نجحت فی تخطّی تداعیات الربیع العربی بعد اعتماد سیاسة إنفاق داخلیة غیر مسبوقة، فمن الصعب التسلیم بذلک على المدیین المتوسط والبعید على الأقل.

حسین العلق

 یبدو من المبکر الرکون للانطباع السائد خارج السعودیة ومؤداه أن المملکة قد نجحت فی تخطّی تداعیات الربیع العربی بعد اعتماد سیاسة إنفاق داخلیة غیر مسبوقة، فمن الصعب التسلیم بذلک على المدیین المتوسط والبعید على الأقل.

 "المکرمات الملکیة"

 إثر عودته من رحلة علاجیة طویلة قضاها فی کل من الولایات المتحدة والمملکة المغربیة، أمر العاهل السعودی الملک عبدالله بن عبد العزیز فی خطاب متلفز یوم 18 فبرایر/شباط الماضی بسلسلة تقدیمات اجتماعیة واسعة النطاق بلغت قیمتها 130 ملیار دولار، کان من بینها زیادة للأجور فی القطاع العام، وصرف راتب شهرین لجمیع موظفی الدولة من مدنیین وعسکریین، وصرف مکافأة شهرین لجمیع طلاب وطالبات التعلیم الحکومی، واعتماد صرف مخصص مالی شهری للعاطلین عن العمل فی القطاعین العام والخاص، وتحدید حد أدنى لأجور السعودیین فی القطاع الحکومی، واستحداث 60 ألف وظیفة عسکریة جدیدة فی وزارة الداخلیة، وإنشاء 500 ألف وحدة سکنیة فی کافة مناطق البلاد، وزیادة الحد الأعلى للقروض السکنیة إلى 133 ألف دولار.

وکان من الواضح من کلمة الملک التی ألقاها ذلک الیوم أن المملکة التی تمتلک فوائض مالیة تقدر بأکثر من 450 ملیار دولار، قررت استخدام هذه القوة المالیة فی امتصاص الاحتقان الداخلی المتنامی نتیجة تردی الوضع الاقتصادی لشرائح عدید من المجتمع السعودی، إلى جانب احتواء ریاح التغییر القادمة من الخارج.

وقد جاء توقیت هذه المنح أو ما یُعرف محلیا بـ "المکرمات الملکیة"- وإن کان الإعلام الرسمی تجنَّب هذه المرة وصفها بالمکرمات- بعد أسبوع من الدعوة التی وجهها مجهولون عبر الشبکات الاجتماعیة على الإنترنت للخروج فی تظاهرات احتجاجیة فی مدن المملکة یوم 11 مارس/آذار، وهی الدعوة التی لم یستجب لها أحد. وکان لافتا فی الخطاب الملکی فی هذا الصدد إشادته برجال الدین السعودیین لاسیما أعضاء هیئة کبار العلماء وعناصر القوات المسلحة إلى جانب أفراد الشعب لعدم التجاوب مع الدعوات للتظاهر.

والسؤال هنا هل یمکن القول: إن هذه التقدیمات المالیة الهائلة التی قدمتها الحکومة السعودیة لشعبها قد استطاعت أن تمتص بالفعل الاحتقان القائم لدى قطاعات من الشعب؟ من الممکن الجواب على هذا السؤال بنصف (نعم) ونصف (لا)؛ إذ یمکن القول: إن المملکة قد نجحت مؤقتا فی امتصاص جزء من حالة الاحتقان القائمة، إلا أنه من الصعب اعتبار هذا النوع من المعالجات حائط صد دائم أمام ریاح التغییر التی باتت تضرب دول المنطقة منذ أشهر. ولإعطاء مثل بسیط حول الهوة الکبیرة بین ما هو مطروح من تقدیمات مالیة وبین ما هو مطلوب، یکفی فی هذا المجال ملاحظة الحجم الهائل للطلب على القروض السکنیة الذی فُتح المجال أمامه یوم 24 یونیو/حزیران الماضی؛ حیث بلغ إجمالی الطلبات فی غضون ثلاثة أسابیع فقط، ثلاثة ملایین ونصف الملیون طلب قرض سکنی جدید (1). وإذا علمنا أن إجمالی القرض السکنی الواحد هو 133 ألف دولار، فستحتاج المملکة وفق عملیة حسابیة بسیطة إلى إنفاق ما یزید على کامل فائضها المالی لتلبیة القروض السکنیة فحسب.

یبدو أن مستوى الرضا المؤقت جرّاء المنح المالیة على النحو الذی قامت به حکومة المملکة السعودیة حتى الآن لم یتجاوز المستفیدین المباشرین وأغلبهم من موظفی القطاع العام، وبمعنى أدق، هناک شرائح واسعة من السعودیین لم تطلهم هذه "المکرمات الملکیة"، فلیس کل السعودیین یعملون فی القطاع العام. فی مقابل ذلک ربما سیکون السعودیون أکثر سعادة لو أن الدولة کبحت جماح أسعار السلع والمواد الغذائیة التی باتت تثقل کاهل الناس، إلى جانب ارتفاع أسعار العقارات والخدمات العامة وأبرزها فواتیر الاتصالات والکهرباء فی بلد یتمتع بطقس حار فی معظم أشهر العام. واللافت فی هذا السیاق، أن المواطنین السعودیین استدانوا من البنوک السعودیة قروضًا استهلاکیة بقیمة 200ملیار ریال سعودی فی العام 2010 وحده (2).

یبدو من الواضح إذًا أن حکومة المملکة أرادت من خلال الإنفاق المالی الکبیر داخلیا أن تصنع لدى مواطنیها صدمة معاکسة للربیع العربی، للحیلولة دون وصول الاحتجاجات للمدن السعودیة، خصوصا وأن الاحتجاجات الشعبیة المطالبة بالدیمقراطیة باتت تطرق حدودها الجنوبیة مع الیمن کما عصفت بجارتها الشرقیة البحرین، إلى جانب الأردن الذی حظی بمنحة سعودیة بلغت 400 ملیون دولار مطلع یولیو/تموز لغرض "مواجهة کل التحدیات" (3)؛ فالاستعاضة عن مطالب الإصلاح السیاسی بمضاعفة الإنفاق لیس غرضه امتصاص الاحتقان فحسب بل إحداث صدمة معاکسة ضد ریاح التغییر.

الشعب بین السیاسة والاقتصاد

من الواضح حتى الآن أن الحکومة السعودیة اعتمدت فی رد فعلها على الربیع العربی ومطالب الإصلاح السیاسی فی الداخل على ضخ المزید من المال. وللوصول إلى تفسیر وفهم سلوک النخبة السعودیة الحاکمة إزاء الوضع القائم فی البلاد، فإنه یبدو أن هناک اعتقادا لدى فریق فی السلطة بأن جوهر أزمة البلاد یکمن فی تردی الوضع الاقتصادی لدى قطاعات من السعودیین غیر المهتمین أصلا بمطالب الإصلاح السیاسی، وعلیه ینحو هذا الفریق باتجاه المعالجات الاقتصادیة على غرار ما تقدم حتى الآن. أما الفریق الآخر فهو یدرک على الأرجح حجم المطالب بالإصلاح السیاسی، ویلمس تطلع النخب السعودیة لقیام ملکیة دستوریة یحکمها دستور عصری یتضمن الفصل بین السلطات، وانتخابًا حرًا لأعضاء مجلس الشورى والمجالس المحلیة، لکن هذا الفریق داخل السلطة ینزع للتفلت من تلبیة جمیع مطالب الإصلاح بالاستعاضة عنها بإغداق المنح المالیة هنا وهناک.

ولعل السؤال الجوهری هنا، هو: هل تتمحور مطالب السعودیین فی تحسین الأوضاع المعیشیة للطبقات الضعیفة من الشعب؟ وعلیه هل تمثل التقدیمات المالیة والاجتماعیة بدیلا عن الإصلاح السیاسی فی المملکة؟

بالعودة إلى العدید من البیانات التی أصدرتها النخب السعودیة فی الآونة الأخیرة وضمت المئات من الناشطین الإصلاحیین البارزین والأکادیمیین ورجال الأعمال والدعاة والکتّاب والمثقفین، یتضح لنا أن تحسین الأوضاع المعیشیة لم یکن سوى مطلب فرعی قیاسا على المطالب السیاسیة الکبرى التی لو قُدّر لها التحقق فسیتغیر تماما وجه النظام السیاسی فی المملکة.

وباستعراض سریع لأهم ما تضمنته تلک البیانات نجد أنها أجمعت على مضمون الدعوة إلى قیام ملکیة دستوریة تتضمن الفصل بین السلطات، وإقرار مبدأ الانتخاب الحر فی کل المجالس التمثیلیة بدءا من المجالس البلدیة ومجالس المناطق ووصولا إلى مجلس الشورى، وإصلاح القضاء، وتفعیل مبدأ الرقابة على المال العام، وتقیید أجهزة الأمن بالقانون، والإفراج عن سجناء الرأی والمعتقلین غیر المحکوم علیهم، وإطلاق حریة التعبیر والنشر، والسماح بقیام منظمات المجتمع المدنی. من هنا بدا اعتماد الحکومة السعودیة على المعالجات الاقتصادیة لصد تأثیرات الربیع العربی على الداخل السعودی خارج السیاق، کما رآه المنتقدون، وبعیدا إلى حد کبیر عن تلبیة طموح النخب السعودیة.

مآلات الإصلاح

تبدو المملکة العربیة السعودیة الیوم متأهبة أکثر من أی وقت مضی لاحتواء الربیع العربی فی الخارج، واحتواء مطالب التغییر والإصلاح فی الداخل فی آن. وفی حین تعمل السیاسة السعودیة تجاه الثورات العربیة على عدة خطوط متوازیة تأخذ بالحسبان طبیعة وظروف کل بلد، تبدو على الصعید الداخلی متماسکة ومجمعة على رأی واحد مقتضاه عدم الاستجابة لأی مطالب بالإصلاح السیاسی فی الوقت الراهن. ولعل الرؤیة القائمة الیوم لدى دوائر صنع القرار هی أن مقتضیات احتواء الخطر الخارجی المتمثل فی سقوط الأنظمة الحلیفة یتطلب فرض المزید من التشدد إزاء مطالب الإصلاح فی الداخل؛ حتى لا تظهر هذه الاستجابة، وفقا لهذه الرؤیة، على أنها علامة ضعف قد تدفع لتقدیم المزید من التنازلات فی الداخل والخارج.

ومن الضروری الإشارة هنا إلى أن مطالب النخب الإصلاحیة السعودیة تعد عالیة بالمعیار المحلی والخلیجی، وهی غیر مسبوقة فی التاریخ السیاسی السعودی؛ فالمطالبة بقیام ملکیة دستوریة، ورفع وتیرة المشارکة الشعبیة، وسیادة القانون، والحد من ظواهر الفساد، وبناء نظام سیاسی تمثیلی یحترم الخصوصیات المذهبیة والمناطقیة فی المملکة، یساوی کل ذلک الرغبة فی "إسقاط النظام" فی الدول الأخرى، فتحقق هذه المطالب یعنی إحلال آلیات حکم جدیدة تستبدل بالنظام القدیم آخر جدیدا تماما.

وإزاء هذا الأمر تبدو النخب الإصلاحیة السعودیة الیوم أمام تحد أکبر یتمثل فی مجابهتها لسلطة قویة سیاسیا ومقتدرة مالیا تسعى لأن ترسخ نفسها کقوة إقلیمیة کبرى؛ فقد جعل سقوط نظام حسنی مبارک المملکة السعودیة أمام مواجهة تنافسیة مباشرة مع قوتین إقلیمیتین قویتین فی الجوار العربی، هما: إیران وترکیا، وفی حین اتخذ التنافس مع إیران شکل الصراع المکشوف فی عدة ساحات، ظل الأمر بالنسبة لترکیا أقرب للمواجهة الناعمة. ضمن هذا السیاق الإقلیمی یمکن فهم الدعوة السعودیة لانضمام مملکتی الأردن والمغرب لمنظومة مجلس التعاون الخلیجی. والقوى الإصلاحیة السعودیة تدرک جیدا أنها تقف الیوم أمام حکومة مستغرقة فی ترتیب الأوضاع الإقلیمیة درءا لأی تداعیات داخلیة محتملة.

ومع هذا، ووسط الغلیان الشعبی العربی الذی رفع شعار "الشعب یرید إسقاط النظام" ظلت القوى الإصلاحیة السعودیة متمسکة بشعار المطالبة بـــ "إصلاح النظام". ولعل الاستثناء الوحید هنا هو الدعوة التی وجهها مجهولون لخروج تظاهرات احتجاجیة فی المدن السعودیة یوم 11 مارس/آذار ترفع شعار إسقاط النظام، والتی مُنِیت بفشل ذریع. عدا ذلک، تکشف جمیع أدبیات القوى الإصلاحیة السعودیة بجمیع أطیافها اللیبرالیة والدینیة -فی الداخل على الأقل- أن هذه القوى تعلن رغبتها فی العمل تحت سقف النظام، وأن جمیع مطالبها تتلخص فی إصلاح هذا النظام دون السعی لإسقاطه، من هنا ترى القوى الإصلاحیة أن النظام الملکی، ومن خلال تشبثه بتقالیده السیاسیة، ورفضه الاستجابة لمطالب الإصلاح السیاسی، یبدو متأخرا کثیرا فی إدراک حجم التحولات الهائلة التی تشهدها الساحة الداخلیة.

وماذا بعد؟ فی أعقاب سلسلة من البیانات المطالبة بالإصلاح السیاسی فی المملکة، والتی لم یعرها النظام أی اهتمام، وجدت القوى الإصلاحیة السعودیة نفسها أمام طریق مسدود؛ فبعد خروج العدید من الإعلانات التی شارکت فی التوقیع علیها نخب بارزة فی المجتمع السعودی، قبیل الخطاب الملکی یوم 18 مارس/آذار الماضی، بدا سقف التوقعات عالیا، فقد ظلت الأنظار متسمرة أمام الشاشات بانتظار إعلان الملک عن إصلاحات جذریة فی النظام السیاسی، ذلک الحین کان أکثر تلک التوقعات تواضعا ینتظر إقرار انتخاب نصف أعضاء مجلس الشورى، وانتخاب کامل لأعضاء المجالس البلدیة التی یقرر القانون انتخاب نصف أعضائها فیما تعین السلطة النصف الآخر، غیر أن الخطاب الملکی ذلک الیوم بدد جمیع تلک التوقعات وجعلها تذهب أدراج الریاح، واقتصرت التوجیهات الملکیة على التقدیمات الاجتماعیة والإعانات والمنح المالیة هنا وهناک. انطلاقا من هذا الواقع، وفی ظل انشغال دوائر صنع القرار فی المملکة باحتواء تداعیات الربیع العربی، یبدو من الصعب تصور إمکانیة إقدام الحکومة السعودیة على إجراء إصلاح سیاسی جذری فی الداخل؛ ولذلک فإن الساحة السعودیة الداخلیة ستبقى رهینة لحالة الترقب نظرا لغیاب المشروعات الوطنیة الجامعة، ونتیجة التردد والحذر الرسمی إزاء غموض الأوضاع التی ستسفر عنها الثورات والاحتجاجات فی عدة دول عربیة.

عوامل الصدام وضرورات التسویة

إن إحجام الحکومة السعودیة عن إجراء إصلاحات سیاسیة جذریة عاجلة، واستمرار غموض الأوضاع على المستوى الإقلیمی، من الممکن أن یدفع بالأمور فی السعودیة نحو اتجاه مجهول؛ فالمملکة تعیش الیوم ظرفا یکاد یکون استثنائیا بجمیع المقاییس؛ فهناک مرحلة انتقالیة غیر واضحة المعالم حتى الآن داخل دوائر الحکم، یُتوقع أن تأخذ طریقها فی أی وقت بالنظر لعوامل السن، فمعظم صناع القرار السعودیین الیوم قد تجاوزوا الثمانین من العمر، وهذا ما یدعو لتخفیض مستوى التوقعات من ورائهم. وتتلخص المرحلة الانتقالیة الأکثر حرجا وغموضا فی انتقال السلطة من الجیل القدیم فی العائلة الحاکمة إلى الجیل الثانی الأصغر سنا.

فی مقابل ذلک، یتلمس المراقب منذ زمن ملامح ظهور نخبة إصلاحیة متأهبة لا یقل سقف مطالبها عن إقرار الملکیة الدستوریة فی البلاد. ولملامسة مدى ارتفاع مستوى الخطاب السیاسی لدى النخبة السعودیة بمختلف توجهاتها، والتی تتضمن مفکرین وأکادیمیین وحقوقیین، یکفی الاطلاع على مستوى النقاشات المحتدمة فی العالم الافتراضی عبر المواقع الإلکترونیة ووسائط الإعلام الجدید، مثل تویتر وفیس بوک؛ فالفضاء الإلکترونی السعودی أضحى منافسا إن لم یکن بدیلا عملیا فی بعض الأحیان عن الإعلام الرسمی الذی یفتقد لحریة التعبیر على نحو حاد؛ حیث من الممکن أن تجد وبسهولة فی الفضاء الإلکترونی کیف أن النخب الإصلاحیة السعودیة باتت لا تخفی رغبتها فی قیام إصلاحات جذریة فی النظام، أقلها إقرار ملکیة دستوریة تعمل خارج الفضاء القبلی المغلق سیاسیا.

وهنا لابد من الإشارة إلى نقطة ضعف بارزة تنتاب النخب الإصلاحیة السعودیة، وهی غیاب کتلة وطنیة قویة متراصة تطالب -وبالإجماع- بالإصلاح، وتشکل ضغطا حقیقیا على الدولة. إن القوى المطالبة بالإصلاح فی المملکة متناثرة على طول الخریطة السعودیة وعرضها، وهی على کثرتها لم تتمکن حتى الآن من تشکیل کتلة وطنیة واحدة وقویة یحسب لها النظام حسابا؛ ولذلک بقیت هذه النخب سهلة المنال وفی متناول ید الأجهزة الأمنیة دونما رد فعل یذکر. إن غیاب التکتلات الکبیرة للنخب الإصلاحیة السعودیة أفسح المجال أمام حکومة المملکة للمقایضة بین مشروع الإصلاح السیاسی والإصلاحات الاقتصادیة وقد نجحت بالفعل فی ذلک مرحلیا على الأقل.

فی نهایة الأمر نجد أنفسنا أمام جیلین سیشکلان معالم التنافس على مستقبل المملکة فی الداخل، أحدهما: الجیل الثانی من العائلة الحاکمة الذی یتوق لتولی مسؤولیات الحکم قریبا، والآخر هو النخبة الإصلاحیة المطالبة بقیام ملکیة دستوریة.

ویمکن لقراءة سریعة لعوامل الصدام وضرورات التسویة بین العائلة الحاکمة والنخب الإصلاحیة أن تدفع باتجاه ترجیح الخیار الثانی الذی قد یحفظ حق جمیع الأطراف، ویساهم بتوزیع سلمی وهادئ للسلطة؛ إذ لم یعد احتکار السلطة على نحو مطلق أمرا مستساغا لدى قطاعات واسعة فی المجتمع، وهی سلطة یعضدها جهاز قضائی تابع للمؤسسة السیاسیة، وأجهزة أمنیة مطلقة الید، وسلطة دینیة توفر غطاء عقدیا سمیکا، ناهیک عن حال التعتیم الإعلامی، وکبت حریة التعبیر، ومنع قیام منظمات المجتمع المدنی، وتنامی حالات التمییز القبلی والمناطقی والمذهبی، والأسوأ مما سبق التمییز الفاضح ضد المرأة.

إن جمود الوضع السیاسی فی المملکة الیوم بات یشکِّل عبئا ثقیلا على الحکومة والشعب بحیث دفع أطرافا من داخل العائلة الحاکمة نفسها للتعبیر عن امتعاضها إزاءه.

ولذلک تبدو عوامل الصدام السیاسی بین النخب الإصلاحیة والحکومة غیر مستبعدة، وقد عزز منها تعثر مشروعات الملک عبد الله فی تحدیث الأنظمة وجعل البلاد أکثر انفتاحا على العصر؛ فقد فتحت مشروعات الملک، ومنها مؤتمرات الحوار الوطنی، والحوار بین الأدیان، وتخفیف القیود على مشارکة المرأة، وارتفاع سقف حریة التعبیر فی وسائل الإعلام، فتحت آمالا کبیرة أمام فرص التغییر الهادئ فی المملکة حتى وقت قریب. غیر أن جمیع ذلک تحطم -کما یقول مراقبون- على صخرة الخلاف والتجاذبات وتأرجح میزان القوى داخل دوائر صنع القرار.

خاتمة

یعتقد الإصلاحیون السعودیون أن إقرار الملکیة الدستوریة فی المملکة سیکون أقل کلفة من ترک البلاد تسیر باتجاه المجهول، خصوصا فی ظل المتغیرات التی تعصف بالمنطقة. فقد أثبتت التحولات الأخیرة فی تونس ومصر على الأقل أنه لا یمکن للنظم السیاسیة الاستمرار بالرکون لتحالفاتها القدیمة، وأنه لیس أمام هذه النظم إلا المراهنة على بناء شراکة حقیقیة مع شعوبها. هذا وحده سیکون کفیلا بتجنیب البلاد ویلات الصدام والسیر نحو المجهول خصوصا فی ظل مرحلة انتقالیة مرتقبة وغیر واضحة المعالم حتى الآن على المستوى المحلی والإقلیمی.

____________________

کاتب ومحلل سیاسی سعودی

مصادر

1- جریدة الشرق الأوسط 13 یولیو/تموز 2011.

2- صحیفة الوطن 11 یونیو/حزیران 2011.

3- تصریح لمصدر رسمی سعودی نقلته وکالة الأنباء السعودیة فی 3 یولیو/تموز 2011.

 یبدو من المبکر الرکون للانطباع السائد خارج السعودیة ومؤداه أن المملکة قد نجحت فی تخطّی تداعیات الربیع العربی بعد اعتماد سیاسة إنفاق داخلیة غیر مسبوقة، فمن الصعب التسلیم بذلک على المدیین المتوسط والبعید على الأقل.

 "المکرمات الملکیة"

إثر عودته من رحلة علاجیة طویلة قضاها فی کل من الولایات المتحدة والمملکة المغربیة، أمر العاهل السعودی الملک عبدالله بن عبد العزیز فی خطاب متلفز یوم 18 فبرایر/شباط الماضی بسلسلة تقدیمات اجتماعیة واسعة النطاق بلغت قیمتها 130 ملیار دولار، کان من بینها زیادة للأجور فی القطاع العام، وصرف راتب شهرین لجمیع موظفی الدولة من مدنیین وعسکریین، وصرف مکافأة شهرین لجمیع طلاب وطالبات التعلیم الحکومی، واعتماد صرف مخصص مالی شهری للعاطلین عن العمل فی القطاعین العام والخاص، وتحدید حد أدنى لأجور السعودیین فی القطاع الحکومی، واستحداث 60 ألف وظیفة عسکریة جدیدة فی وزارة الداخلیة، وإنشاء 500 ألف وحدة سکنیة فی کافة مناطق البلاد، وزیادة الحد الأعلى للقروض السکنیة إلى 133 ألف دولار.

وکان من الواضح من کلمة الملک التی ألقاها ذلک الیوم أن المملکة التی تمتلک فوائض مالیة تقدر بأکثر من 450 ملیار دولار، قررت استخدام هذه القوة المالیة فی امتصاص الاحتقان الداخلی المتنامی نتیجة تردی الوضع الاقتصادی لشرائح عدید من المجتمع السعودی، إلى جانب احتواء ریاح التغییر القادمة من الخارج.

وقد جاء توقیت هذه المنح أو ما یُعرف محلیا بـ "المکرمات الملکیة"- وإن کان الإعلام الرسمی تجنَّب هذه المرة وصفها بالمکرمات- بعد أسبوع من الدعوة التی وجهها مجهولون عبر الشبکات الاجتماعیة على الإنترنت للخروج فی تظاهرات احتجاجیة فی مدن المملکة یوم 11 مارس/آذار، وهی الدعوة التی لم یستجب لها أحد. وکان لافتا فی الخطاب الملکی فی هذا الصدد إشادته برجال الدین السعودیین لاسیما أعضاء هیئة کبار العلماء وعناصر القوات المسلحة إلى جانب أفراد الشعب لعدم التجاوب مع الدعوات للتظاهر.

والسؤال هنا هل یمکن القول: إن هذه التقدیمات المالیة الهائلة التی قدمتها الحکومة السعودیة لشعبها قد استطاعت أن تمتص بالفعل الاحتقان القائم لدى قطاعات من الشعب؟ من الممکن الجواب على هذا السؤال بنصف (نعم) ونصف (لا)؛ إذ یمکن القول: إن المملکة قد نجحت مؤقتا فی امتصاص جزء من حالة الاحتقان القائمة، إلا أنه من الصعب اعتبار هذا النوع من المعالجات حائط صد دائم أمام ریاح التغییر التی باتت تضرب دول المنطقة منذ أشهر. ولإعطاء مثل بسیط حول الهوة الکبیرة بین ما هو مطروح من تقدیمات مالیة وبین ما هو مطلوب، یکفی فی هذا المجال ملاحظة الحجم الهائل للطلب على القروض السکنیة الذی فُتح المجال أمامه یوم 24 یونیو/حزیران الماضی؛ حیث بلغ إجمالی الطلبات فی غضون ثلاثة أسابیع فقط، ثلاثة ملایین ونصف الملیون طلب قرض سکنی جدید (1). وإذا علمنا أن إجمالی القرض السکنی الواحد هو 133 ألف دولار، فستحتاج المملکة وفق عملیة حسابیة بسیطة إلى إنفاق ما یزید على کامل فائضها المالی لتلبیة القروض السکنیة فحسب.

یبدو أن مستوى الرضا المؤقت جرّاء المنح المالیة على النحو الذی قامت به حکومة المملکة السعودیة حتى الآن لم یتجاوز المستفیدین المباشرین وأغلبهم من موظفی القطاع العام، وبمعنى أدق، هناک شرائح واسعة من السعودیین لم تطلهم هذه "المکرمات الملکیة"، فلیس کل السعودیین یعملون فی القطاع العام. فی مقابل ذلک ربما سیکون السعودیون أکثر سعادة لو أن الدولة کبحت جماح أسعار السلع والمواد الغذائیة التی باتت تثقل کاهل الناس، إلى جانب ارتفاع أسعار العقارات والخدمات العامة وأبرزها فواتیر الاتصالات والکهرباء فی بلد یتمتع بطقس حار فی معظم أشهر العام. واللافت فی هذا السیاق، أن المواطنین السعودیین استدانوا من البنوک السعودیة قروضًا استهلاکیة بقیمة 200ملیار ریال سعودی فی العام 2010 وحده (2).

یبدو من الواضح إذًا أن حکومة المملکة أرادت من خلال الإنفاق المالی الکبیر داخلیا أن تصنع لدى مواطنیها صدمة معاکسة للربیع العربی، للحیلولة دون وصول الاحتجاجات للمدن السعودیة، خصوصا وأن الاحتجاجات الشعبیة المطالبة بالدیمقراطیة باتت تطرق حدودها الجنوبیة مع الیمن کما عصفت بجارتها الشرقیة البحرین، إلى جانب الأردن الذی حظی بمنحة سعودیة بلغت 400 ملیون دولار مطلع یولیو/تموز لغرض "مواجهة کل التحدیات" (3)؛ فالاستعاضة عن مطالب الإصلاح السیاسی بمضاعفة الإنفاق لیس غرضه امتصاص الاحتقان فحسب بل إحداث صدمة معاکسة ضد ریاح التغییر.

الشعب بین السیاسة والاقتصاد

من الواضح حتى الآن أن الحکومة السعودیة اعتمدت فی رد فعلها على الربیع العربی ومطالب الإصلاح السیاسی فی الداخل على ضخ المزید من المال. وللوصول إلى تفسیر وفهم سلوک النخبة السعودیة الحاکمة إزاء الوضع القائم فی البلاد، فإنه یبدو أن هناک اعتقادا لدى فریق فی السلطة بأن جوهر أزمة البلاد یکمن فی تردی الوضع الاقتصادی لدى قطاعات من السعودیین غیر المهتمین أصلا بمطالب الإصلاح السیاسی، وعلیه ینحو هذا الفریق باتجاه المعالجات الاقتصادیة على غرار ما تقدم حتى الآن. أما الفریق الآخر فهو یدرک على الأرجح حجم المطالب بالإصلاح السیاسی، ویلمس تطلع النخب السعودیة لقیام ملکیة دستوریة یحکمها دستور عصری یتضمن الفصل بین السلطات، وانتخابًا حرًا لأعضاء مجلس الشورى والمجالس المحلیة، لکن هذا الفریق داخل السلطة ینزع للتفلت من تلبیة جمیع مطالب الإصلاح بالاستعاضة عنها بإغداق المنح المالیة هنا وهناک.

ولعل السؤال الجوهری هنا، هو: هل تتمحور مطالب السعودیین فی تحسین الأوضاع المعیشیة للطبقات الضعیفة من الشعب؟ وعلیه هل تمثل التقدیمات المالیة والاجتماعیة بدیلا عن الإصلاح السیاسی فی المملکة؟

بالعودة إلى العدید من البیانات التی أصدرتها النخب السعودیة فی الآونة الأخیرة وضمت المئات من الناشطین الإصلاحیین البارزین والأکادیمیین ورجال الأعمال والدعاة والکتّاب والمثقفین، یتضح لنا أن تحسین الأوضاع المعیشیة لم یکن سوى مطلب فرعی قیاسا على المطالب السیاسیة الکبرى التی لو قُدّر لها التحقق فسیتغیر تماما وجه النظام السیاسی فی المملکة.

وباستعراض سریع لأهم ما تضمنته تلک البیانات نجد أنها أجمعت على مضمون الدعوة إلى قیام ملکیة دستوریة تتضمن الفصل بین السلطات، وإقرار مبدأ الانتخاب الحر فی کل المجالس التمثیلیة بدءا من المجالس البلدیة ومجالس المناطق ووصولا إلى مجلس الشورى، وإصلاح القضاء، وتفعیل مبدأ الرقابة على المال العام، وتقیید أجهزة الأمن بالقانون، والإفراج عن سجناء الرأی والمعتقلین غیر المحکوم علیهم، وإطلاق حریة التعبیر والنشر، والسماح بقیام منظمات المجتمع المدنی. من هنا بدا اعتماد الحکومة السعودیة على المعالجات الاقتصادیة لصد تأثیرات الربیع العربی على الداخل السعودی خارج السیاق، کما رآه المنتقدون، وبعیدا إلى حد کبیر عن تلبیة طموح النخب السعودیة.

مآلات الإصلاح

تبدو المملکة العربیة السعودیة الیوم متأهبة أکثر من أی وقت مضی لاحتواء الربیع العربی فی الخارج، واحتواء مطالب التغییر والإصلاح فی الداخل فی آن. وفی حین تعمل السیاسة السعودیة تجاه الثورات العربیة على عدة خطوط متوازیة تأخذ بالحسبان طبیعة وظروف کل بلد، تبدو على الصعید الداخلی متماسکة ومجمعة على رأی واحد مقتضاه عدم الاستجابة لأی مطالب بالإصلاح السیاسی فی الوقت الراهن. ولعل الرؤیة القائمة الیوم لدى دوائر صنع القرار هی أن مقتضیات احتواء الخطر الخارجی المتمثل فی سقوط الأنظمة الحلیفة یتطلب فرض المزید من التشدد إزاء مطالب الإصلاح فی الداخل؛ حتى لا تظهر هذه الاستجابة، وفقا لهذه الرؤیة، على أنها علامة ضعف قد تدفع لتقدیم المزید من التنازلات فی الداخل والخارج.

ومن الضروری الإشارة هنا إلى أن مطالب النخب الإصلاحیة السعودیة تعد عالیة بالمعیار المحلی والخلیجی، وهی غیر مسبوقة فی التاریخ السیاسی السعودی؛ فالمطالبة بقیام ملکیة دستوریة، ورفع وتیرة المشارکة الشعبیة، وسیادة القانون، والحد من ظواهر الفساد، وبناء نظام سیاسی تمثیلی یحترم الخصوصیات المذهبیة والمناطقیة فی المملکة، یساوی کل ذلک الرغبة فی "إسقاط النظام" فی الدول الأخرى، فتحقق هذه المطالب یعنی إحلال آلیات حکم جدیدة تستبدل بالنظام القدیم آخر جدیدا تماما.

وإزاء هذا الأمر تبدو النخب الإصلاحیة السعودیة الیوم أمام تحد أکبر یتمثل فی مجابهتها لسلطة قویة سیاسیا ومقتدرة مالیا تسعى لأن ترسخ نفسها کقوة إقلیمیة کبرى؛ فقد جعل سقوط نظام حسنی مبارک المملکة السعودیة أمام مواجهة تنافسیة مباشرة مع قوتین إقلیمیتین قویتین فی الجوار العربی، هما: إیران وترکیا، وفی حین اتخذ التنافس مع إیران شکل الصراع المکشوف فی عدة ساحات، ظل الأمر بالنسبة لترکیا أقرب للمواجهة الناعمة. ضمن هذا السیاق الإقلیمی یمکن فهم الدعوة السعودیة لانضمام مملکتی الأردن والمغرب لمنظومة مجلس التعاون الخلیجی. والقوى الإصلاحیة السعودیة تدرک جیدا أنها تقف الیوم أمام حکومة مستغرقة فی ترتیب الأوضاع الإقلیمیة درءا لأی تداعیات داخلیة محتملة.

ومع هذا، ووسط الغلیان الشعبی العربی الذی رفع شعار "الشعب یرید إسقاط النظام" ظلت القوى الإصلاحیة السعودیة متمسکة بشعار المطالبة بـــ "إصلاح النظام". ولعل الاستثناء الوحید هنا هو الدعوة التی وجهها مجهولون لخروج تظاهرات احتجاجیة فی المدن السعودیة یوم 11 مارس/آذار ترفع شعار إسقاط النظام، والتی مُنِیت بفشل ذریع. عدا ذلک، تکشف جمیع أدبیات القوى الإصلاحیة السعودیة بجمیع أطیافها اللیبرالیة والدینیة -فی الداخل على الأقل- أن هذه القوى تعلن رغبتها فی العمل تحت سقف النظام، وأن جمیع مطالبها تتلخص فی إصلاح هذا النظام دون السعی لإسقاطه، من هنا ترى القوى الإصلاحیة أن النظام الملکی، ومن خلال تشبثه بتقالیده السیاسیة، ورفضه الاستجابة لمطالب الإصلاح السیاسی، یبدو متأخرا کثیرا فی إدراک حجم التحولات الهائلة التی تشهدها الساحة الداخلیة.

وماذا بعد؟ فی أعقاب سلسلة من البیانات المطالبة بالإصلاح السیاسی فی المملکة، والتی لم یعرها النظام أی اهتمام، وجدت القوى الإصلاحیة السعودیة نفسها أمام طریق مسدود؛ فبعد خروج العدید من الإعلانات التی شارکت فی التوقیع علیها نخب بارزة فی المجتمع السعودی، قبیل الخطاب الملکی یوم 18 مارس/آذار الماضی، بدا سقف التوقعات عالیا، فقد ظلت الأنظار متسمرة أمام الشاشات بانتظار إعلان الملک عن إصلاحات جذریة فی النظام السیاسی، ذلک الحین کان أکثر تلک التوقعات تواضعا ینتظر إقرار انتخاب نصف أعضاء مجلس الشورى، وانتخاب کامل لأعضاء المجالس البلدیة التی یقرر القانون انتخاب نصف أعضائها فیما تعین السلطة النصف الآخر، غیر أن الخطاب الملکی ذلک الیوم بدد جمیع تلک التوقعات وجعلها تذهب أدراج الریاح، واقتصرت التوجیهات الملکیة على التقدیمات الاجتماعیة والإعانات والمنح المالیة هنا وهناک. انطلاقا من هذا الواقع، وفی ظل انشغال دوائر صنع القرار فی المملکة باحتواء تداعیات الربیع العربی، یبدو من الصعب تصور إمکانیة إقدام الحکومة السعودیة على إجراء إصلاح سیاسی جذری فی الداخل؛ ولذلک فإن الساحة السعودیة الداخلیة ستبقى رهینة لحالة الترقب نظرا لغیاب المشروعات الوطنیة الجامعة، ونتیجة التردد والحذر الرسمی إزاء غموض الأوضاع التی ستسفر عنها الثورات والاحتجاجات فی عدة دول عربیة.

عوامل الصدام وضرورات التسویة

إن إحجام الحکومة السعودیة عن إجراء إصلاحات سیاسیة جذریة عاجلة، واستمرار غموض الأوضاع على المستوى الإقلیمی، من الممکن أن یدفع بالأمور فی السعودیة نحو اتجاه مجهول؛ فالمملکة تعیش الیوم ظرفا یکاد یکون استثنائیا بجمیع المقاییس؛ فهناک مرحلة انتقالیة غیر واضحة المعالم حتى الآن داخل دوائر الحکم، یُتوقع أن تأخذ طریقها فی أی وقت بالنظر لعوامل السن، فمعظم صناع القرار السعودیین الیوم قد تجاوزوا الثمانین من العمر، وهذا ما یدعو لتخفیض مستوى التوقعات من ورائهم. وتتلخص المرحلة الانتقالیة الأکثر حرجا وغموضا فی انتقال السلطة من الجیل القدیم فی العائلة الحاکمة إلى الجیل الثانی الأصغر سنا.

فی مقابل ذلک، یتلمس المراقب منذ زمن ملامح ظهور نخبة إصلاحیة متأهبة لا یقل سقف مطالبها عن إقرار الملکیة الدستوریة فی البلاد. ولملامسة مدى ارتفاع مستوى الخطاب السیاسی لدى النخبة السعودیة بمختلف توجهاتها، والتی تتضمن مفکرین وأکادیمیین وحقوقیین، یکفی الاطلاع على مستوى النقاشات المحتدمة فی العالم الافتراضی عبر المواقع الإلکترونیة ووسائط الإعلام الجدید، مثل تویتر وفیس بوک؛ فالفضاء الإلکترونی السعودی أضحى منافسا إن لم یکن بدیلا عملیا فی بعض الأحیان عن الإعلام الرسمی الذی یفتقد لحریة التعبیر على نحو حاد؛ حیث من الممکن أن تجد وبسهولة فی الفضاء الإلکترونی کیف أن النخب الإصلاحیة السعودیة باتت لا تخفی رغبتها فی قیام إصلاحات جذریة فی النظام، أقلها إقرار ملکیة دستوریة تعمل خارج الفضاء القبلی المغلق سیاسیا.

وهنا لابد من الإشارة إلى نقطة ضعف بارزة تنتاب النخب الإصلاحیة السعودیة، وهی غیاب کتلة وطنیة قویة متراصة تطالب -وبالإجماع- بالإصلاح، وتشکل ضغطا حقیقیا على الدولة. إن القوى المطالبة بالإصلاح فی المملکة متناثرة على طول الخریطة السعودیة وعرضها، وهی على کثرتها لم تتمکن حتى الآن من تشکیل کتلة وطنیة واحدة وقویة یحسب لها النظام حسابا؛ ولذلک بقیت هذه النخب سهلة المنال وفی متناول ید الأجهزة الأمنیة دونما رد فعل یذکر. إن غیاب التکتلات الکبیرة للنخب الإصلاحیة السعودیة أفسح المجال أمام حکومة المملکة للمقایضة بین مشروع الإصلاح السیاسی والإصلاحات الاقتصادیة وقد نجحت بالفعل فی ذلک مرحلیا على الأقل.

فی نهایة الأمر نجد أنفسنا أمام جیلین سیشکلان معالم التنافس على مستقبل المملکة فی الداخل، أحدهما: الجیل الثانی من العائلة الحاکمة الذی یتوق لتولی مسؤولیات الحکم قریبا، والآخر هو النخبة الإصلاحیة المطالبة بقیام ملکیة دستوریة.

ویمکن لقراءة سریعة لعوامل الصدام وضرورات التسویة بین العائلة الحاکمة والنخب الإصلاحیة أن تدفع باتجاه ترجیح الخیار الثانی الذی قد یحفظ حق جمیع الأطراف، ویساهم بتوزیع سلمی وهادئ للسلطة؛ إذ لم یعد احتکار السلطة على نحو مطلق أمرا مستساغا لدى قطاعات واسعة فی المجتمع، وهی سلطة یعضدها جهاز قضائی تابع للمؤسسة السیاسیة، وأجهزة أمنیة مطلقة الید، وسلطة دینیة توفر غطاء عقدیا سمیکا، ناهیک عن حال التعتیم الإعلامی، وکبت حریة التعبیر، ومنع قیام منظمات المجتمع المدنی، وتنامی حالات التمییز القبلی والمناطقی والمذهبی، والأسوأ مما سبق التمییز الفاضح ضد المرأة.

إن جمود الوضع السیاسی فی المملکة الیوم بات یشکِّل عبئا ثقیلا على الحکومة والشعب بحیث دفع أطرافا من داخل العائلة الحاکمة نفسها للتعبیر عن امتعاضها إزاءه.

ولذلک تبدو عوامل الصدام السیاسی بین النخب الإصلاحیة والحکومة غیر مستبعدة، وقد عزز منها تعثر مشروعات الملک عبد الله فی تحدیث الأنظمة وجعل البلاد أکثر انفتاحا على العصر؛ فقد فتحت مشروعات الملک، ومنها مؤتمرات الحوار الوطنی، والحوار بین الأدیان، وتخفیف القیود على مشارکة المرأة، وارتفاع سقف حریة التعبیر فی وسائل الإعلام، فتحت آمالا کبیرة أمام فرص التغییر الهادئ فی المملکة حتى وقت قریب. غیر أن جمیع ذلک تحطم -کما یقول مراقبون- على صخرة الخلاف والتجاذبات وتأرجح میزان القوى داخل دوائر صنع القرار.

خاتمة

یعتقد الإصلاحیون السعودیون أن إقرار الملکیة الدستوریة فی المملکة سیکون أقل کلفة من ترک البلاد تسیر باتجاه المجهول، خصوصا فی ظل المتغیرات التی تعصف بالمنطقة. فقد أثبتت التحولات الأخیرة فی تونس ومصر على الأقل أنه لا یمکن للنظم السیاسیة الاستمرار بالرکون لتحالفاتها القدیمة، وأنه لیس أمام هذه النظم إلا المراهنة على بناء شراکة حقیقیة مع شعوبها. هذا وحده سیکون کفیلا بتجنیب البلاد ویلات الصدام والسیر نحو المجهول خصوصا فی ظل مرحلة انتقالیة مرتقبة وغیر واضحة المعالم حتى الآن على المستوى المحلی والإقلیمی.

____________________

کاتب ومحلل سیاسی سعودی

مصادر

1- جریدة الشرق الأوسط 13 یولیو/تموز 2011.

2- صحیفة الوطن 11 یونیو/حزیران 2011.

3- تصریح لمصدر رسمی سعودی نقلته وکالة الأنباء السعودیة فی 3 یولیو/تموز 2011.

30449

رمز الخبر 170411