يعرض فيلم ‘غبار أحمر’ للمخرج توم هوبر معنى ‘الحقيقة والمصالحة’ التي تعتبر واحدة من انجح اساليب ‘المصالحة الوطنية’ في الدول التي شهدت صراعات داخلية بين فئات متباينة سواء في العرق او الانتماء الديني. وبشكل مختصر تعني هذه الاطروحة ان على منتهكي حقوق الانسان خصوصا التعذيب خلال نظام الحكم البائد ان يعترفوا امام ضحاياهم بما اقترفوه من تلك الجرائم، فاذا شعر الضحية بان جلاده كان صادقا في اعترافه بجريمته، اصبح عليه ان يعفو عنه كخطوة على طريق المصالحة.
وقد يترتب على ذلك تعويضات مالية عن طريق المحاكم المدنية. ومن خلال مشاهد الفيلم الرائع تتكشف حقائق قد تكون غائبة عن اذهان النشطاء والمراقبين. فالمعروف مثلا ان الضغوط الدولية على النظام العنصري في جنوب افريقيا تصاعدت بعد قتل المناضل ‘ستيف بيكو’ تحت التعذيب في 1977 للتوقف عن تعذيب السجناء السياسيين. ويكشف الفيلم ايضا ان ممارسة التعذيب في غرف التحقيق قد تتراجع، ولكنه يكشف حقيقة اخرى وهي انه لم يتوقف. فبدلا من ممارسته داخل السجون اصبح المناضلون ينقلون الى مكان اصبح يعرف بـ ‘المزرعة’ حسب ما جاء في الفيلم. وهناك يتعرضون لابشع اشكال التعذيب. هذا يؤكد حقيقة مرة ملخصها ان النظام القمعي الديكتاتوري لا يمكن ان يتخلى عن اساءة معاملة معارضيه مهما مورست عليه من ضغوط. فالتعذيب يحقق نتائج عديدة: اولها انه يدخل الخوف والرعب في قلوب المناضلين وقد يردعهم عن الحراك. ثانيها انه يوفر للمعذب شعور الغلبة والتفوق، ويجعله يتلذذ بـ ‘السلطة’ التي يتمتع بها. ثالثها: انه يساهم في تعميق الخوف من النظام السياسي، وقد يرسخ قناعة البعض بعدم امكان تغييره. رابعها وهو الاهم انه قد يكسر ارادة الضحية فيتحقق لعملاء النظام شعور بانتصار ارادتهم. ولذلك فثمة نتيجة توصل اليها العديد من النشطاء ان منظومة حقوق الانسان والآليات الدولية التي وضعت لحمايتها فشلت، بعد اكثر من ستين عاما، في تطوير اوضاع حقوق الانسان في العالم، وما تزال الشعوب تعاني من اساليب القمع والتنكيل والاستخفاف بحقوق افرادها كما كانت قبل طرح المواثيق الدولية والعهود الخاصة بالحقوق السياسية والمدنية.
والامر الذي يقلص الانتهاكات حدوث تغير جوهري في النظام السياسي. اما الانظمة الديكتاتورية فيستحيل ان تحسن سلوكها او تحترم حقوق الانسان. وحتى عندما يكون النظام السياسي ‘ديمقراطيا’ فان احترامه لالتزاماته ازاء تلك الحقوق، سواء بمقتضى دستوره ام اتفاقاته الدولية، محدودة كذلك. فنظام الاحتلال الاسرائيلي يعتبر في نظر الغربيين ‘نظاما ديمقراطيا’. ومع ذلك فانه يمارس انتهاكات حقوق الانسان على نطاق واسع، كما تؤكده التقارير التي تصدر عن الجهات الدولية او المحلية. وفي الاسبوع الماضي بدأ مجلس حقوق الانسان في جنيف مناقشة ملف بناء المستوطنات الاسرائيلية على اساس انه مرتبط بمنظومة حقوق الانسان وادان ممارسات ‘اسرائيل’. فما كان منها الا ان قررت ‘تجميد’ تعاونها مع المجلس، وعدم السماح بلجنة لتقصي الحقائق من دخول الاراضي المحتلة.
في النقاشات التي طرحت في الاثني عشر شهرا الماضية، اي منذ انطلاق ربيع الثورات العربية، تواصلت السجالات حول مقولات الديمقراطية وحقوق الانسان ومواقف الدول الغربية ازاءها. وقد اصبح واضحا بما لا يقبل مجالا للشك ان لدى الغرب اجندته التي يسعى من خلالها لفرض هيمنته على العالم، خصوصا دول الشرق الاوسط، وبالتالي فان اطروحتي الديمقراطية وحقوق الانسان لم تعودا في نظر الغرب ‘الديمقراطي’ مطلقتين، بل انهما نسبيتان تخضعان للظروف ويتم تسخيرهما لمنطق ‘المصالح’ الغربية. ومنذ الثمانينات، عندما اصبحت دول الشرق الاوسط، خصوصا الدول النفطية، تحظى باهمية استراتيجية خاصة بعد سقوط ايران الشاه من فلك النفوذ الغربي، اتخذ الحديث عن هاتين المنظومتين منحى جديدا. فقد اصبح الساسة الغربيون يتحاشون الحديث عن ترويج الديمقراطية في العالم العربي، ويقولون انهم مستعدون للتعاطي مع ملفات حقوق الانسان فقط. ولكن حتى هذه الحقوق خضعت لتحريف آخر. فقد طرحت مقولة ‘الخصوصية’ لتبرير ما يجري في الدول السائرة في الفلك الغربي، وتم الترويج لما يسمى الخصوصيات الثقافية والدينية لتبرير عدم اثارة الانتهاكات على صعيد واسع. ولذلك لم تتحسن اوضاع المنطقة في هذين المجالين، بل بقيت اسيرة للموروث السياسي القائم على انتهاك حقوق البشر وحرمانهم من ادنى حقوقهم السياسية. وادى تجاهل التطوير السياسي في المنطقة طوال ثلاثين عاما الى احتقان غير مسبوق كانت ثورات الربيع العربي من اهم تجليات نتائجه. بل ان الغرب تدخل، بانماط شتى، لتأجيل التغيير السياسي في منظومة الحكم العربية ثلاثين عاما، اذ كان المفترض ان ينعكس اسقاط شاه ايران من خلال اكبر ثورة شعبية شهدتها منطقة الشرق الاوسط في العصر الحديث على الوضع العربي، ولكن تضافرت جهود الغرب مع القوى الاقليمية مدعومة بالمال النفطي لمنع ذلك بالاساليب نفسها التي تستخدم اليوم لاحتواء الثورات. واهم تلك الوسائل الطرح الطائفي لتفتيت اللحمة الاسلامية والوطنية وإبعاد أجندة التغيير. ولا يقل خطرا عن ذلك سياسة ‘استنزاف’ الثورات بمنع الحسم وتحويلها الى احتجاجات محدودة التأثير، على امل ان تتلاشى روح الثورة ويضمحل الحماس للتغيير.
مشروع التغيير عن طريق الجماهير يتعرض هو الآخر لمحاولات الافشال بحرف البوصلة بعيدا عن المسار الذي يضرب النظام السياسي في صميمه. وشيئا فشيئا يتدخل الغربيون للحديث ليس عن ضرورة تغيير الانظمة بل عن طرق اصلاحها. وهذا الاصلاح لا يتم بقرارات دولية ملزمة بل عن طريق ‘الحوار’. والحوار لا يتم بمبادرات مستقلة او من خلال الامم المتحدة مثلا، بل باشراف انظمة الحكم ووفقا لاجندتها. ومادة الحوار المطروحة لا تتطرق للاسئلة الجوهرية بل تحصر السجال ضمن قضايا اجرائية لا تحقق الاصلاح من قريب او بعيد. فجميع الثورات التي انطلقت كانت تتمحور حول تساؤلات عديدة: من يحكم البلاد؟ وكيف؟ هل للشعب حق تقرير المصير؟ هل يسمح للشعب بكتابة دستور بلاده؟ وهل يسمح بان تكون الحكومات منتخبة؟ اما اجندات الحوار التي تروج لها ابواق الدعاية الرسمية والاعلام الغربي والسياسيون الامريكيون والبريطانيون على وجه الخصوص فهي محصورة بقضايا اجرائية من نوع توسيع صلاحيات المجالس المنتخبة مثلا، او تعديل الدوائر الانتخابية، او إدخال تطويرات شكلية في اجهزة الشرطة وطرق الاعتقال، او تعيين بعض الوزراء في الحكومات القائمة. وجميع هذه القضايا هامشية لم ترد على اذهان شباب الثورة الذين فجروا الحراك السياسي في الربيع العربي. الغربيون من جانبهم يروجون لهذه القضايا الاجرائية، ويوحون للجماهير باستحالة التغيير، ويساهمون عبر اعلامهم وتصريحاتهم في خلق اجواء توحي بان هذه الاجراءات الشكلية هي جوهر الاصلاح، فاذا أصر الثوار على رفض هذه ‘المكرمات’ سمح للانظمة استعمال العنف المفرط على امل حدوث ردود فعل جماهيرية تمارس العنف المضاد لتتحول الثورة الى حالة احتقان امني تنفر منها الجماهير وتتحول الى مشكلة امنية تستدعي الحلول العاجلة لمنع حمامات الدم المرتقبة. بل ان الغربيين لا يخفون ادوارهم السياسية والامنية للسيطرة على الثورات ومنع انتصارها بشكل كامل، وتحجيم نتائجها بما يحفظ بقاء الانظمة السياسية التي انطلقت الثورات اساسا لتغييرها. انه سباق مع الزمن من قبل الغربيين وانظمة الحكم الصديقة لهم في المنطقة، بضرورة احتواء الموقف وعدم السماح له بالخروج عن الدوائر المحدودة المرسومة له التي لا تسمح بالحراك الخارج عن تصورات انظمة الحكم وداعميها الغربيين.
حدثت تغييرات في تونس ومصر، ولكن أحدا لا يعتقد بانها تعبر عما كان يختلج في نفوس الجماهير الثائرة عندما انطلقت في شتاء العام الماضي لاحداث تغييرات جوهرية في منظومات الحكم العربية. فتونس ما تزال ترزح تحت بقايا النظام السابق في اجهزة الامن والجيش، وتعاني من نضوب امكاناتها المالية والاقتصادية بعد عقود من الفساد وسوء الادارة. كما تعاني من سياسة تجويع فرضها عليها التحالف الغربي غير المقدس بدعم من انظمة الحكم ذات الوفرة المالية التي تعتبر الاشد مقاومة للتغيير السياسي في منظومة الحكم العربية. اما مصر فترزح تحت حكم العسكر الذين امسكوا بتلابيب الدولة ومنعوا تحولها الى نظام ديمقراطي حقيقي يمسك الشعب فيه بالقرار السياسي. المجلس العسكري يتحكم في الانتخابات الرئاسية والمشاركين فيها ويحاصر المرشحين بمطالبه الخاصة لمنع تراجع موقعه على الساحة السياسية في المستقبل المنظور. وما يزال هذا المجلس مصرا على الاحتفاظ بالقرارات السياسية خصوصا المتعلقة باتفاقات كامب ديفيد والتعاون مع الفلسطينيين خصوصا في منطقة غزة التي يعاني اهلها من سياسة تجويع رهيبة. وما يزال التوتر مسيطرا على الوضع اليمني خصوصا مع تصاعد نغمة الحراك الجنوبي التي تبشر بالانفصال ولم تعد واثقة من قدرة اقليم الشمال على السيطرة على الوضع او ضبطه او قيادة البلاد الى النظام الديمقراطي الذي يمثل تطلعات الشباب ويلبي طموح رواد الثورة. الامر المؤكد ان التغيير السياسي المطلوب لم يتحقق، وان التوجه لاقامة منظومة ديمقراطية تعددية وتداول حقيقي على السلطة ما يزال حلما يستعصي على التحقق. مع ذلك تضافرت كافة قوى الثورة المضادة لمنع سقوط النظام، والضغط عليه لتقديم بعض التنازلات التي انحصرت حتى الآن بازاحة الرئيس السابق مع منحه الحصانة من المساءلة او المقاضاة.
التغيير السياسي الذي لم يتحقق سيظل عنوانا لظلامة الشعوب العربية. ولكن ماذا عن حقوق الانسان التي ما يزال الغربيون يقولون ان لها الاولوية في سياساتهم الخارجية وتواصلهم مع الانظمة العربية؟ فحتى البرلمان الاوروبي عجز عن تقديم خطاب ينسجم فيه الطرح السياسي بالمسألة الحقوقية. والمسألة الحقوقية اصبحت البديل المشروع، في نظر الغربيين، للمطلب الشعبي الجوهري وهو تغيير النظام السياسي. الجماهير تدرك ان الاصلاح الحقوقي واحترام حقوق الانسان لا يمكن تحقيقه الا ضمن نظام سياسي جديد يتنكر لكافة وسائل القمع واشكاله، وهذا لا يمكن تحققه الا في ظل انظمة تختارها شعوبها عبر صناديق الاقتراع، وليس وفق مقولة ‘التفويض الابدي المطلق’ كما يفعل حكام المنطقة اليوم. يتظاهر الغربيون احيانا بالضغط على حلفائهم في المنطقة للحد من انتهاكاتهم لحقوق الانسان ويطالبونهم باحترام تلك الحقوق، ولكن هؤلاء الغربيين انفسهم يساعدون تلك الانظمة على المراوغة والالتفاف، بل يمدونهم بالخبرات الامنية اذا احتاجوا. والا فما تفسير ارسال ضابطين، امريكي وبريطاني، ذوي سمعة سيئة في بلديهما، لادارة اجهزة الشرطة والامن في البحرين؟ قد تبرر واشنطن ولندن ذلك بانه من اجل تطوير اداء اجهزة الامن لكي تتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الانسان. وقد تشير كذلك الى ان السلطات قامت بنصب كاميرات داخل السجون لتوثيق ما يجري، وفي ذلك اشارة الى عزم السلطات التخلي عن التعذيب وذلك بتوثيق ما يتم داخل الزنزانات. ولكن هذا لا يعني شيئا. وكما قال المقرر الخاص حول التعذيب التابع للامم المتحدة، السيد خوان منديس: ‘عندما نرى الكاميرات داخل غرف التحقيق نزداد يقينا بان التعذيب يجري في اماكن اخرى غير السجن’. فلا يمكن لنظام ديكتاتوري ان لا يعذب مواطنيه، كما لا يستطيع ان يسمح بحرية التعبير لانه يعلم ان المواطنين اذا توفرت لهم حرية التعبير والتجمع والتظاهر، واذا لم يخشوا التعذيب عند الاعتقال، فان الديكتاتورية سوف تسقط لا محالة.
الغربيون يعيشون واحدا من اسوأ ظروفهم السياسية والاقتصادية. ويعتبرون الثورات العربية تغيرا حتميا في موازين القوى في منطقة الشرق الاوسط لغير صالحهم. وينظرون الى تغيرات وشيكة في سياسات روسيا، وكذلك الصين. وبالتالي يجدون انفسهم امام امتحان صعب بين الوفاء لقيمهم ومبادئهم التي طرحوها لتبرير تدخلاتهم في المنطقة، او تجاهل كل ذلك والانطلاق لتحقيق مصالحهم وحمايتها. هذا الموقف الصعب هو الذي دفع واشنطن لاطلاق تصريحات غير منسجمة حول تقديم مساعدات عسكرية لمصر او وقفها. وعندما اتضح لهم ان المجلس العسكري قد امسك تماما بزمام الامور ارتأوا الاستمرار في تقديم مساعداتهم العسكرية التي تبلغ مليارا وربعا. ولكن هذا القرار الذي أعلنت عنه هيلاري كلينتون لا يعني تنفيذه، بل يشير الى حتمية مراقبة الوضع المصري واتجاهات العلاقات الخارجية لهذا البلد الكبير. وهنا يصبح موقف الاخوان المسلمين حاسما للموقف بين استمرار تقديم الدعم الامريكي او وقف المساعدات عن مصر، وما لذلك من اثر عكسي على تلك العلاقات. ان الموقف من تقديم الدعم المالي واللوجستي لـ ‘الاصدقاء’ ضرورة تعتقد واشنطن ان علاقاتها الخارجية بدونها لن تحقق الكثير. وفي الوقت نفسه اصبحت الادارة الامريكية اكثر ادراكا لضرورة عدم ابراز الدعم للانظمة التي تسجن مواطنيها وتعذبهم بسبب ممارستهم حرية التعبير، مع استعدادها للتغاضي عن ذلك ان تم بشكل بعيد عن الانظار. وهكذا تبدو السياسة الغربية، خصوصا الامريكية منها، رافضة سياسات التعذيب في غرف التحقيق الرسمية ولكنها لن تمنع ما يمارسه الجلادون في ‘المزرعة’.
4949