شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة وما تزال تشهد حالة غليان شعبي تنذر بانتفاضة ثالثة. هذا في الوقت الذي نفذ فيه أربعة آلاف أسير فلسطيني في سجون الاحتلال الصهيوني اضرابا عن الطعام، واعلنوا الحداد ثلاثة ايام بوفاة الاسير عرفات جرادات تحت التعذيب. من ناحية اخرى: تعم المناطق تحت الاحتلال ارهاصات انتفاضة جديدة وشيكة. لقد كثر الحديث من قبل عن إمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبخاصة أن الأجواء السائدة حالياً أشبه ما تكون بأحوال ما قبل الانتفاضتين السابقتين. من جهة فإن موظفي السلطة في الضفة الغربية يقومون باضرابات متتالية نتيجة لعدم صرف رواتبهم كاملة منذ أشهر عديدة. من ناحية ثانية فإن الوضع الاقتصادي يتفاقم، فالسلطة تعيش أزمة خانقة بسبب الحصار المالي المفروض عليها من العدو الصهيوني رغم ما وعد به نتنياهو: من تحويل أموال ضرائب شهر كانون الثانييناير التي تجمعها اسرائيل باسم الفلسطينيين، الى السلطة. كما أن أموال الداعمين لا يجري تسديدها بشكل منتظم. الجامعة العربية مؤخراً استعدت بصرف 100 مليون دولار للسلطة شهرياً غير أن ذلك لم يتم حتى اللحظة.
على صعيد آخر فإنه وأثناء العدوان الصهيوني الأخير على القطاع في شهر نوفمبر الماضي، قامت في الضفة الغربية حراكات جماهيرية فلسطينية واسعة وساخنة في مواجهة قوات الاحتلال. إسرائيل ماضية في استيطانها وآخر حلقة فيه: المشروع 'إي1' الذي يقسم شمال الضفة الغربية عن جنوبها، ويصادر 10' من أراضي الضفة الغربية. المشروع هو بمثابة المسمار الأخير في نعش المراهنة على حل الدولتين نفهو يلغي إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة ومتواصلة جغرافياً. الاستيطان والجدار والطرق الالتفافية الإسرائيلية صادرت حتى اللحظة ما ينوف عن الـــ60' من مساحة الضفة الغربية،عدا عن أن المشروع الاستيطاني الأخير يزيد من عزلة المدن والقرى والمناطق الفلسطينية، ويجعل منها كانتونات معزولة تماماً بعضها عن بعض.
على الصعيد السياسي: فإن الإنجاز الذي تحقق في الأمم المتحدة بقبول دولة فلسطين عضواً مراقباً في المنظمة الدولية، ظلّ إنجازاً معنوياً ليس إلا، ولا يمكن تطبيقه واقعاً على الأرض في ظل موازين قوى الصراع الفلسطيني العربي- الصهيوني. من جانبٍ آخر فإن التسوية وصلت إلى طريق مسدود ومفاوضات عشرين عاماً مع إسرائيل، لم تُنتج سوى الكوارث والويلات على المشروع الوطني الفلسطيني وقضيته وعلى الحقوق الفلسطينية.إسرائيل تريد فرض رؤيتها للتسوية مع الفلسطينيين والعرب، وجوهرها: رضوح كامل فلسطيني وعربي والمزيد من الاشتراطات عليهم.
على صعيد الداخل الإسرائيلي: فلقد أظهرت نتائج الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة تقدما ملحوظا للاحزاب المتطرفة والاكثر تطرفا، بما يشي: أن التحولات في اسرائيل ماضية نحو الاتجاه الاكثر تطرفا وصولا الى مرحلة متقدمة من الفاشية الصهيونية. ماذا يعني كل ذلك؟ هذا يشير إلى أننا سنكون أمام ائتلاف حكومي إسرائيلي قادم بزعامة نتنياهو- ليبرمان مع قوى أشد يمينية وتطرفاً من أحزاب الائتلاف الحالي (الذي يقوم بتصريف الاعمال). هذا يشير أيضاً إلى أننا أمام طرح تسوية أكثر اذلالا واختزالا أكبر للحقوق الوطنية الفلسطينية.
بالمقابل: فإن السلطة الفلسطينية في ظل هذا التعنت الإسرائيلي الشديد، والتنكر المطلق للحقوق الوطنية الفلسطينية، لم تطرح استراتيجية بديلة لنهج المفاوضات بل تزداد يوماً بعد يوم تمسكا بها رغم عقمها ولا جدواها وآثارها التدميرية على القضية الفلسطينية.السلطة للأسف تعتبر المقاومة المشروعة (عنفاً) بل (إرهاباُ) رغم الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة يومياً على الأرض والإنسان في الأراضي المحتلة(في الضفة الغربية وقطاع غزة ومنطقة 48).
بالمقابل أيضاً: فإن السلطة الأخرى في قطاع غزة متمسكة بالتهدئة والهدنة مع العدو الصهيوني إلى أمد غير معلوم. إسرائيل ما تزال تمارس ذات الحصار على غزة. المقصود القول:أن إسرائيل في وضع ملائم دون عمليات عسكرية مقاومة ضدها،لا من قطاع غزة (إلا من تلك التي تجري دون سماح من سلطة حماس ودون معرفتها) ولا من الضفة الغربية، في ظل التشديدات من كلا السلطتين لعدم انطلاق عمليات ضد إسرائيل. هذا في ظل التنسيق الأمني القائم بين السلطة في رام الله والكيان الصهيوني. الأخير سيفرض المزيد من القوانين العنصرية ضد أهلنا في منطقة 48، وسيستمر في وضع العراقيل أمام نيلهم لحقوقهم.
عربياً: فإن الآمال الفلسطينية التي كانت معقودة على متغيرات إيجابية حول ما يسمى بــ(الربيع العربي) تجاه القضية الفلسطينية، وفي مجال الصراع مع إسرائيل،لم تتحقق ولو في جزءٍ صغير منها،فهذه الدول ما زالت تعيش إرهاصات التحولات فيها وإشكالاتها الداخلية، وفلسطين والصراع مع العدو، لا يحتلا أولوية في أجنداتها وبالتالي فلا متغيرات حقيقية تنعكس إيجاباً على المشروع الوطني الفلسطيني.
الوضع الدولي: فلسطين على الاجندة الدولية ليست اولوية اولى .اننا نشهد ترتيبا جديدا للاولويات، فالموضوع النووي الايراني يحتل الصدارة، ثم أن الحراكات الجماهيرية العربية تحتل مكانا متقدما بين الأولويات وبخاصة الصراع في سوريا. إسرائيل في وضع مرتاح بالمعنى النسبي، لا يجري كشف جرائمها إلا من انتقادات واحتجاجات على الاستيطان الإسرائيلي، وهو ما لا تحسب حسابه إسرائيل، وتقوم بفرض حقائقها على الأرض، لذا من الطبيعي: أن يطلب نتنياهو من عباس عبر موفده مولخو 'العمل على تهدئة الاوضاع في المناطق المحتلة'. إنجاز قبول الدولة المراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة كما صمود المقاومة في حرب الثمانية أيام لم يجر استثمارهما للأسف في إنجاز المصالحة الفلسطينية والعودة بالوحدة الوطنية الفلسطينية إلى سابق عهدها،على أساس الثوابت الوطنية الفلسطينية،ولم يجر إحياء للمقاومة وأحد أبرز أشكالها: الكفاح المسلح، ولم يجر إصلاح لمنظمة التحرير الفلسطينية.
لكل ذلك: فإن الأجواء مهيأة لاندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، غير أن الانتفاضة بحاجة إلى قيادة فلسطينية موحدة (وهذه تفتقدها الساحة الفلسطينية في ظل الانقسام)، اضافة الى ان عباس قال في خطاب له حول الموضوع: 'بدأت اسرائيل في تطوير المواجهات باستخدام الرصاص الحي لقتل شبابنا واطفالنا. هم يريدون ايصالنا الى مرحلة لا نريدها ' في اشارة الى الأنتفاضة بالطبع! ما لم يقله صراحة عباس قاله نبيل شعث لصحيفة 'معاريف' من (أنه لا يوجد مخطط لانتفاضة ثالقة). نقول ذلك لأن الانتفاضة تعبتر مقاومة شعبية، وهو ما ينادي به عباس. رغم ذلك: لا يريد الوصول الى مرحلة الانتفاضة! وهذا ما يؤثر سلباً على اندلاعها، لكن في كثير من الأحيان: فإن اندلاع الانتفاضات الشعبية لا يرتبط بالواقع السياسي المعاش ولا بالحسابات هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية: فإن الانتفاضة تندلع 'بشرارة' والتي تأتي في معظم الأحيان نتيجة حدث غير متوقع، وربما سيكون الاسرى وقتل جرادات هي هذه الشرارة.
كل ذلك يجري في ظل وجود أرضية وأجواء مهيأة. أغلب الاحتمالات أن انتفاضة فلسطينية ستندلع في فترة قريبة، ما دامت الأوضاع السياسية جامدة إلى هذا الحد في الوضع الفلسطيني المثقل بالأزمات المالية والسياسية والبنيوية التنظـــيمية، وفي ظل عدم استقرار الوضع العربي،وفي ظل ميزان قوى دولي منحاز بالكامل للطرف الصهيوني.الأدق تعبيرا أننا في المرحلة الحالية، على حافة الغــليان وعلى أبواب انتفاضة فلسطينية ثالثة وشاملة.