تاريخ النشر: ١٠ أكتوبر ٢٠١٢ - ١١:٣٦

د. سعید الشهابی

 
 
 

یخطئ'من یعتقد ان ثورات الربیع العربی کانت ستترک لتقریر مصیرها بدون تدخلات خارجیة. ویتفاقم الخطأ اذا لم یتم استیعاب ما یمکن تسمیته 'کیمیاء التغییر' فی العالم العربی، الذی یلعب المال النفطی فیه دورا لا یقل اهمیة عن (بل یتکامل مع) التدخل الخارجی الغربی. ومهما یقال عن الوضع الراهن فلا بد من الاعتراف بان اغلب الزخم الثوری تم القضاء علیه او احتواؤه من قبل قوى الثورة المضادة، وان القلیل من الثورات ما یزال مستمرا بدفعه الذاتی.
هذا القلیل یواجه الیوم تآمرا غیر محدود من قبل قوى الثورة المضادة، التی تستخدم التأثیر النفسی کوسیلة لقمع تطلعات الجماهیر وتحیید دور النخب السیاسیة والفکریة بمستویات غیر مسبوقة. ویمکن تلمس عمق الشعور الغربی بالسیطرة على الوضع، من خلال التوجیهات التی صدرت مؤخرا من مصادر القرار الغربی للانظمة العربیة بعدم استهداف الکیان الاسرائیلی فی جلسات الدورة الحالیة للامم المتحدة التی افتتحت فی نیویورک. فما کان لهذا الطلب ان یصدر لو کانت الثورات قد حققت هدف التغییر الحقیقی الذی کانت آمال الجماهیر مشدودة الیه. فهل من المعقول ان تصل الصفاقة الغربیة الى حد اصدار التعلیمات للدول العربیة بعدم استهداف کیان الاحتلال، حتى فی الاجتماع السنوی للمنظمة الدولیة للطاقة الذریة، الذی افتتح یوم الاثنین الماضی فی فیینا، رغم وجود درع غربی لحمایته سیاسیا؟ مع ذلک فان هذه التساؤلات تصطدم مع تطورات الایام القلیلة الاخیرة التی شهدت هجمات عدیدة على سفارات امریکیة أودت احداها بحیاة سفیر واشنطن فی لیبیا وثلاثة من دبلوماسییها. انه تطور لم یکن متوقعا او منظورا فی ظل الهیمنة الامریکیة التی تعمقت فی العامین الاخیرین لتواکب تطورات الربیع العربی.
وربما من السابق لاوانه استشراف مستقبل التوازن السیاسی فی دول التغییر العربی بعد هذا التطور الناجم فی ظاهره عن بث فیلم اهان رسول الله علیه افضل الصلاة والسلام، ولکنه یستبطن شعورا عمیقا لدى قطاعات واسعة بالعداء للولایات المتحدة الامریکیة. ولقد کانت لدى الغرب، خصوصا واشنطن، خشیة من ان تکون ثورات العربی سببا لتصاعد المشاعر العربیة ضد السیاسات الامریکیة فی الشرق الاوسط. وهذا هو الامر الطبیعی فی ای حالة ثوریة. فالثورة الحقیقیة لا تستقیم مع منطق الصداقة لامریکا التی تعادی المنطق الثوری تماما، وتنتهج سیاسة تهدف لمواجهته ومنع تبلوره. وجاء الربیع العربی مفاجئا للبعض، ولکنه نتیجة طبیعیة وحتمیة لعقود من التمادی الغربی ازاء الوضع العربی، خصوصا فی مجالات ثلاثة: الحریات العامة وما یرتبط بها من دیمقراطیة وحقوق انسان، والتصدی للاحتلال الاسرائیلی لفلسطین، والموقف ازاء الهیمنة الغربیة، خصوصا الامریکیة، على الصعد السیاسیة والاقتصادیة فی العالم العربی.
لم یکن'متوقعا ان تتمادى واشنطن وحلفاؤها الغربیون الى هذا المستوى فتصدر اوامرهم للدول العربیة بعدم استهداف الکیان الاسرائیلی فی مداولات الدورة السنویة للامم المتحدة التی بدأت هذا الشهر. وما کانت هذه الجهات لتفعل ذلک لولا شعورها بقدرتها على تمریر الطلب، بعد ان اصبحت ضامنا اکبر لانظمة القمع بحمایتها من سطوة الثورات.
وتستطیع ادارة اوباما ان تثبت لهذه الانظمة دورها الفاعل فی وقف المد الثوری، کما فعلت ابان المد الشیوعی فی الخمسینات والستینات، وطوال العقود الثلاثة التالیة التی اعقبت انتصار الثورة الاسلامیة فی ایران. السیاسات الغربیة التی تقودها امریکا کانت عاملا حاسما فی منع قیام الثورات ضد انظمة الاستبداد العربیة، وبموازاة ذلک استطاعت الولایات المتحدة تخفیف الضغط على الکیان الاسرائیلی بتمییع سیاسات الانظمة العربیة وطرح مبادرات هدفت لتطویع الموقف العربی نفسیا على الاقل، ولتجعل مقولات 'السلام' و'التطبیع' مع الکیان الاسرائیلی، مفردات مقبولة، او على الاقل غیر مثیرة للذوق العربی. وما اعظم الهلع الغربی عندما اندلعت الثورات قبل اقل من عامین. فکان من الطبیعی ان یکون الشعور الفوری للساسة الغربیین منطلقا من تجربة ثورة ایران قبل اکثر من عقود ثلاثة. هذا هو معنى الثورة: انها تقلب الموازین وتغیر الواقع وتطرح ما هو غیر متوقع من سیاسات مغایرة لما هو سائد. فبالاضافة لصعود مشروع الاسلام السیاسی بعد ثورة ایران فی العام 1979، منیت السیاسات الغربیة فی الشرق الاوسط بضربة موجعة، فقد خسر الکیان الاسرائیلی اکبر حلیف له فی الشرق الاوسط، بسقوط شاه ایران وقطع العلاقات بین طهران وتل أبیب، وتحققت للمقاومة الفلسطینیة دفعة الى الامام بالاعتراف بها ممثلة للشعب الفلسطینی ومستحقة لمعاملة دبلوماسیة، من خلال اول سفارة لها فی العالم. کان هذا بعبعا مقلقا جدا للساسة الغربیین، وکذلک الحکام العرب الذین استثمروا کثیرا فی مشاریع التطبیع والسلام مع الکیان الاسرائیلی. ورغم قدرة الغرب على التخطیط الاستراتیجی فقد غابت عنه حقائق تعتبر قوانین وسننا لا یمکن تغییرها. ومن ذلک اعتقاده بامکان استمرار تغییب الجماهیر عن اتخاذ القرار السیاسی والاستراتیجی ازاء القضایا المصیریة، والرهان على امکان تحییدها وتهمیشها بشکل دائم، وقدرة السیاسة الغربیة على دعم انظمة الاستبداد الى الابد. وکانت الحکمة مجانبة للدبلوماسیة الغربیة، الامر الذی اضعف بصیرتها ومنعها من تبنی مشاریع اصلاحیة فی العالم العربی. کانت قادرة على 'هندسة' اوضاع سیاسیة وامنیة اقل استبدادا وانتهاکا لحقوق الانسان، واکثر تطمینا للجماهیر بمنحها دورا فی ادارة مجتمعاتها والنجاة بنفسها وابنائها من القمع السلطوی الذی لا یعرف الحدود. لکن الغربیین لم یفعلوا ذلک، فجاءت الثورة نتیجة طبیعیة لتلک السیاسات وحتمیة لا تستطیع قوة فی الارض منع وقوعها. صحیح ان قطاعا کبیرا من الثورة تم تحییده، ولکن السبب الاکبر فی ذلک سقوط النخب العربیة بشکل مروع امام اسالیب قوى الثورة المضادة، وعجزها عن استیعاب دور المال النفطی فی الانقلاب غیر المرئی على الثورة.
هندسة'التغییر واعادة توجیه الثورات جاءت متأخرة، واصبحت الآن مفضوحة امام الجماهیر. فقد انطلقت کردة فعل للحراک الشعبی الذی عم العدید من الدول العربیة خلال العشرین شهرا الماضیة واستهدف احداث تغییر جوهری فی بنیة النظام السیاسی العربی باسقاط الاستبداد والدیکتاتوریة واقامة انظمة تختارها الشعوب. وحیث ان السیاسة الغربیة منذ حقبة الاستعمار تأسست وفق منظور الهیمنة الغربیة، فقد استدعت دعم الاستبداد والحکم المطلق لضمان تلک الهیمنة، لان الانظمة المنتخبة شعبیا تستمد شرعیتها وقوتها من تفویض شعوبها وارادتهم، ولیس من الدعم السیاسی والامنی الغربی. الثورات انطلقت بهدف استعادة تلک الارادة الشعبیة المسلوبة، ولکنها سرعان ما تحولت الى 'تمرین هندسی' بادوات أنجلو ـ أمریکیة لاعادة رسم هیکل الانظمة السیاسیة، بما یحدث بعض التغیرات فی قمة الهرم مع ابقاء الانظمة قائمة. واختصرت جهود الثوار ودماء الشهداء فی تغییر رأس النظام او بعض مفاصله، ولکن بقیت السیاسات الخارجیة محکومة بمنطق 'الواقعیة' و'التدرج' و'المسایرة' على امل تحقیق التغییر لاحقا. انها سیاسات لا تثبت الوقائع قدرتها على تحقیق ما تعد الجماهیر به. وثمة اسباب واقعیة للانقضاض الغربی على الثورات وتبدید جهودها وتحویل بعضها الى حراکات تعتمد على دعم الدول الغربیة. هذه الدول تمارس، کعادتها، عملیة اختیار الانظمة التی یجب ان تسقط وتلک التی یجب ان تبقى مع تغییرات طفیفة. ومعاییر التغییر لدیها محکومة باجنداتها التی تتضمن الالتزام بأمن 'اسرائیل' والحفاظ على تفوقها العسکری والاستراتیجی. اما الثورة التی ترفض استمداد قوتها من التدخل الغربی فتحاصر وتستهدف من قبل التحالف الغربی مع انظمة الاستبداد، ویتواصل السعی لوصمها بالطائفیة لحرمانها من'التعاطف العربی والاسلامی.
من المسؤول'عن تسلیم مهمة التغییر الى امریکا وحلفائها؟ هل غابت الحکمة عن رموز المعارضات العربیة حتى سمحت لنفسها بالوقوع فی الفخ الغربی المنصوب ضد الامة؟ ثمة عوامل ساهمت فی اضعاف وعی الزعامات الجدیدة بحقائق الواقع ومخططات اعداء الثورات، وستظل تساهم فی ذلک ما لم تراجع نفسها وتتعامل بوعی مع خطط اولئک الاعداء. من هذه العوامل: عدم جدیة الحرکات السیاسیة التقلیدیة فی التغییر، وخشیتها من تسلیم الامور للجماهیر. هذه الحقیقة ادت الى کشف ظهر الثوار، خصوصا عندما استسلم بعض تلک الحرکات لتأثیر اسلحة قوى الثورة المضادة، خصوصا تلک التی تهدف لتمزیق الصف الثوری وفق خطوط الدین والمذهب والعرق. کان الاجدر بالعلماء وقادة الحرکات الاسلامیة رفض تلک المقولات جملة وتفصیلا، والعمل بعکس مقتضاها تماما، وتکثیف الجهود لرأب التصدعات فی الجسد الوطنی، والتعالی على ثقافة الحزبیة والطائفیة والمذهبیة والعرقیة. کان حریا بهذه القیادات استیعاب حقیقة اخرى وهی ان انظمة الحکم القبلیة او الفردیة هی المسؤولة عن امراض الامة وتخلفها، وان اصلاحها مستحیل. مطلوب من هذه القیادات شیء من الحس الثوری الذی یعتبر التغییر السیاسی اولویة، وان الاستبداد رأس الشرور وأقبح اشکال الفساد والانحراف، وان کل ما سواه لا یعادله فی السوء. وبدلا من التعاطی السلبی مع الاختلافات الدینیة والمذهبیة والعرقیة والاستغراق فی التصدی لها، فبامکان القیادات السیاسیة الحزبیة والثوریة اعتبار تلک الاختلافات مصادر ثراء فکری وحضاری، کما تفعل الدول المتحضرة. السبب الثانی سقوط دور النخب المثقفة بعد عقود من سیاسات التدجین وتکمیم الافواه ومصادرة الرأی الحر وتوظیف اصحاب القلم والفکر وذوی النزعات التحرریة والتقدمیة فی مؤسسات مدعومة بالمال النفطی، الذی اصبح الوقود الاساس الذی تستعمله قوى الثورة المضادة ضد مجموعات التغییر. ان صمت المثقفین وعدم دعمهم ثورات الشعوب، واستجابتهم لارجاف انظمة الاستبداد واموال النفط اصبح وصمة عار فی تاریخ الثقافة والوعی العربیین، وسلاحا بایدی الطغاة ضد مناوئیهم. ویتمثل البعد الثالث بالامبراطوریات الاعلامیة التی تصدت للثورات واظهرت نفسها داعمة للثوار بینما اضمرت خططا لحرف المسار الثوری او احتوائه. هذا الاعلام المدعوم بالدولارات النفطیة ساهم فی تضلیل الرأی العام وادى الى احتراب داخلی بعد ترویجه افکار التطرف والتکفیر والتحزب والانتماء القبلی، وکلها من قیم الاستبداد المهیمن على شعوبنا المضطهدة. اما البعد الرابع فیمثله الدعم الامنی والسیاسی الغربی للانظمة التی تعتبرها 'حلیفة' وترفض المساس بها، ولا یهم الغربیون ان نجمت عن هذا الدعم حمامات من الدماء واستمرار أزمة الحکم فی منطقة هی الاهم فی العالم فی مجال توفیر النفط لعجلة التصنیع الغربی.
وکان من نتائج هذا التدخل الغربی السافر تحمس المسؤولین الغربیین لفرض اجنداتهم على المسارات السیاسیة والفکریة بشکل فاضح. وما الضغط الحالی على الوفود العربیة لاجتماعی کل من الوکالة الدولیة للطاقة الذریة والدورة السابعة والستین للجمعیة العمومیة للامم المتحدة الا مؤشر لذلک المنحى.'ویقول دبلوماسیون إن هناک مبعوثین غربیین یحثون الدول العربیة على عدم تعنیف 'إسرائیل' بسبب ترسانتها النوویة، خلال المؤتمر السنوی للوکالة الدولیة للطاقة الذریة بذریعة ان ذلک 'قد یعرقل الجهود الرامیة لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النوویة'، وهو کلام ذرائعی مضلل.'ومن المتوقع ان تنتقد بعض الوفود العربیة 'إسرائیل' لکنها منقسمة بشأن ما إن کان ینبغی أن تطرح مشروع قرار بشأن هذا الأمر فی المؤتمر السنوی العام. وفی المؤتمر السنوی العام الماضی امتنعت الدول العربیة عن طرح مشروع قرار ضد الکیان الاسرائیلی وترسانته النوویة. وبموازاة ذلک ذکرت التقاریر ان هذه الدول الغربیة نفسها قامت بضغوط کبیرة مؤخرا بهدف اقناع روسیا والصین بالانضمام الیها فی ادانة البرنامج النووی الایرانی، خلال اجتماع الوکالة الدولیة للطاقة الذریة. هذان الموقفان یعکسان ازدواجیة معاییر الدول الغربیة من جهة واستعداد بعض الانظمة العربیة للاستجابة لضغوطها فی مقابل دعم هذه الانظمة ضد ثورات التغییر. فکیف یمکن التوصل الى منطقة شرق أوسطیة خالیة من اسلحة الدمار الشامل ما دام الکیان الصهیونی یرفض توقیع اتفاقیة منع السلاح النووی او السماح بتفتیش منشأته النوویة؟ کیف یمکن تحقیق ذلک اذا کان الامریکیون ملتزمین بالحفاظ على التفوق الاستراتیجی الاسرائیلی کسیاسة ثابتة؟ من هنا تأتی 'هندسة التغییر' الغربیة لمنع انتصار الثورات، ومن هنا ایضا تتضح اهمیة حدوث یقظة جدیدة فی الضمیر العربی لاستیعاب حقائق الواقع ودور قوى الثورة المضادة فی افشال محاولات التغییر، وکیف انها تدافع عن بقاء انظمة الاستبداد فی مقابل تخلیها عن المطالبة بتحریر فلسطین او التصدی للاحتلال ولو بالکلام والقرارات التی لا تجد طریقها للتنفیذ. الثورة ضرورة تاریخیة لمنطقة تعرضت للاستعمار ثم الاحتلال ثم الاستبداد، ولکن نجاحها یتطلب ثبات الثوار من جهة ووعی النخب من علماء ومفکرین واعلامیین من جهة ثانیة واستیعاب اسالیب الثورة المضادة ثالثة، والاصرار على المواقف المبدئیة والسیاسات الثابتة بدون الخشیة من غطرسة الغرب وتدخلاته الساعیة لحمایة الاحتلال من جهة وشق الصف العربی ـ الاسلامی رابعة. قد یؤمن الکثیرون بهذا التحلیل ولکن ما لم تتغیر السیاسات والمواقف ازاء المشروع التغییری وفق هذا التحلیل فسیراوح الحراک التغییری مکانه وتتبخر اهداف الثوار وتضیع دماء الشهداء. بدون هذا الاستیعاب ستدخل مشاریع التغییر منطقة مکتظة بالاعاصیر التی تدفعها للدوران فی حلقة مفرغة کما حدث فی الیمن وکما یحدث فی سوریة والبحرین.