لم يعد الحديث عن الإصلاح أو قانون الانتخاب وما تمخض عنهما يعبر عن حقيقة الأمر الواقع في الأردن أو عن التحديات التي تجابه الحكم فيه. الحقيقة هي أن الأردن قد دخل في تصنيف الدولة المأزومة وأن مستقبلها بل ووجودها قد أصبح في خطر.
المشكلة الآن هي مستقبل الأردن والأردنيين. فقد نجح الحكم في زج الأردن في مسار لا يستطيع أحد أن يتكهن بدقة إلى أين سينتهي. ولكن الشعور العام بين أوساط الأردنيين يشير إلى حالة من القلق والخوف وعدم اليقيـــن الذي قد يــــؤدي إلى قلب الأمور رأساً على عقب. و لا يوجد تفسير لذلك سوى احتمال واحد من اثنين: إما أنَّ الحكم يعلم إلى أين ستنتهي الأمور وهو بذلك يعتـــبر طرفاً فاعلاً فيما جرى ويجري وسيجري، أو أنه لا يعلم بما هو مخطط للأردن ولكنه يتصرف بدافع من أنانية الحكم أو استهتار بعض المسؤولين فيه بغض النظر عن النتائج المترتبة على ذلك. وفي كلا الاحتمالين، فإن مستقبل الوطن الأردني إن لم يكن وجوده قد أصبح في خطر.
إن تطور الأمور في الأردن يشير الآن إلى بدايات منعطف خطير قد لا يأكل بالضرورة الأخضـــر واليــــابس، ولكنه بالتأكيد سوف يأكل الأخضر. فالأمور لم تعد الآن محصورة بإصلاح نظام الحكم أو بمسيرة الإصلاح والديمقراطية بشــكل عام بقدر ما أصبحت تتعلق وللمرة الأولى بمستقبل الأردن والأردنيين. لقد ابتدأنا الآن بالدخول في مرحلة الدفاع عن الوطن وعن وجوده وعن الأجيال الأردنية التي بدأت تشعر أنه يتم الزج بها تدريجياً في نفق مظلم وأنها قد وُضِعَتْ أمام احتمالية أن تصبح شعباً بلا وطن.
الحل لا يكمن في الإصرار على تكرار الأسطوانة القديمة المشروخة بأن المطالب الإصلاحية هي السبب كونها سوف تؤدي في منتهاها إلى زعزعة الأمن والاستقرار. هذا زعم سخيف يقلب الحقيقة دونما خجل، ذلك لأن زعزعة الأمن والاستقرار التي تتزايد تعبيراتها هذه الأيام هي بالضبط النتيجة الحتمية لسياسات الحكم والرعونة السياسية التي رافقت مسيرة العديد من الحكومات الأردنية ومسؤوليها في السنوات الأخيرة، وأدت إلى الانهيار الاقتصادي والوجوم السياسي، والفساد الكبير الذي صبغ الأردن مؤخراً وجعله كَمَاً لا يُعْتَدُّ به تنظر إليه دول الجوار بدونية واضحة بعد أن ثبتت عدم قدرته على احترام مصالحه. وبعد أن كان دوره الإقليمي تحت إدارة الملك حسين ملحوظاً ومحترماً ويفوق حجمه وإمكاناته الحقيقية، أصبح استمرار وجود الأردن نفسه موضع شك وأصبحت بعض دول الجوار تنظر إليه باعتباره حالة طارئة مكلفة كونه أصبح غير قادر على إعالة نفسه.
إن سوء اختيار الحكم لرؤساء الوزارات، وسوء اختيار رؤساء الوزراء لمعظم وزرائهم ، وسوء اختيار أولئك الوزراء للمسؤولين الخاضعين لهم، واعتبار المعظم أن المنصب هو فرصة أكثر منها مسؤولية، قد حول الأردن إلى مزرعة يقتنص منها المسؤول عوضاً عن أن يعطيها ما يملك من خبرة وجهد وطاقة. وقد انعكس هذا بوضوح على واقع الدولة الأردنية التي أصبح مسارها السياسي والاقتصادي والمالي خاضعاً لمصالح بعض المسؤولين ونزواتهم، إن لم يكن جهلهم واستعدادهم للتضحية بالمصلحة العامة من أجل مكاسب شخصية ضيقة. وفي ظل غياب مبدأ المحاسبة والمساءلة وتكرار استدعاء هذا النمط من البشر لتولي منصب المسؤولية مراراً وتكراراً عوضاً عن محاسبتهم، أصبحت الاستهانة بالمصلحة العامة أمراً طبيعياً، وأصبح الخضوع لرغبات ولي الأمر هي المرجعية الأساسية للنجاح والعلو في المناصب. وقد ساهم هذا الوضع الشائن في الانهيار المتواصل في مستوى الأداء العام واحترام أمانة المسؤولية والحفاظ على المال العام مما ساهم في الانهيار التدريجي للدولة إلى المدى الذي وصلت إليه الآن. ولكن يبقى السؤال الكبير، إذا كان مثل هذا الوضع سيؤدي إلى انهيار الدولة من الداخل، فلماذا يتصرف الحكم الأردني بهذه الطريقة الغريبة؟ ولماذا يتم استعداء الناس من خلال تقييم مطالبهم وطموحاتهم من منظور الشك والريبة وليس من منظور الحق؟ ولماذا يتم السماح باستقواء الفاسد على الشريف؟
إن لعبة القط والفأر بهدف إنهاك الشعب الأردني ووضعه أمام حائط اللا خيارات ليست سياسة مرتجلة وبدون هدف، ولكنها سياسة لئيمة مقصودة تبتدئ بالصغائر وتنتهي بالكبائر، وإعادة العمل بسياسة لجم الأفواه وتكبيل الحريات أصبحت بالتالي ضرورة لا غنى عنها وأداة مثالية في تعامل السلطة مع الشعب ضمن هذا المنظور.
ولم تعد الأمور في الأردن مقتصرة على وقف برنامج الإصلاح وتجميد الحراك الشعبي الدافع له، بل تعدت ذلك إلى العودة إلى الوراء، أي إلى نقطة البداية واعتبار كافة الانجازات للحراك الشعبي والنضال من أجل الإصلاح في الأردن انجازات سلبية يجب إما تجميدها أو العودة عنها إن لم يكن بقوة القانون، فليكن بقوة السلطة وممارساتها. إن هذا النهج الذي جَسََّـّدَته حكومة فايز الطراونة بأبشع تجلياته قد أدى إلى خلق توتر داخلي كاد أن يعصف بأهم ميزات الحراك الشعبي الأردني، ألا وهي سلميته واعتدال سقفه، مع العلم بأن هذه السلمية بقيت النبراس الهادي للجميع سواء الشعب أو السلطة وكانت مصدر فخر السلطة والشعب سواء بسواء.
الالتفاف على مطالب الإصلاح واستغلال إمكانات الدولة لإضعاف الحركة الاحتجاجية خلقا انطباعاً خاطئاً لدى بعض المسؤولين بأن ربيع الإصلاح في الأردن قد فقد زخمه وأنه في الطريق إلى زوال. هذا الانطباع الخاطئ قد شجع بعض المسؤولين ورؤساء الحكومات على انتهاج سياسات معادية للإصلاح وتفتقر حتى إلى الحدود الدنيا من الكياسة السياسية، وغالباً ما كانت تجنح إلى الاستفزاز من منطلق أن الحركة الاحتجاجية قد انتهت. وقد دفع هذا المسلك الدولة الأردنية إلى الحافة وأصبح الأردن على مشارف مرحلة جديدة أكثر قوة ووضوحاً وشمولاً في المطالبة بالإصلاح وأكثر استعداداً للنزول إلى الشارع للدفاع عن تلك المطالب. إن هذا التطور هو من صنع النظام الذي فشل، على ما يبدو، في فهم واستيعاب أصالة وجدية المطالب الشعبية بالإصلاح مما دفع بالأمور إلى حد التشنج وأصبح الوضع العام يقع ضمن خانة الأزمة، وابتدأت الأرض تهتز تحت أقدام الجميع في إشارة واضحة إلى أن زلزالاً كبيراً سوف يضرب الأردن. وعوضاً عن اتخاذ الإجراءات الوقائية مبكراً، أصر الحكم على المضي في سياسات فاقمت الوضع الداخلي وزادت من التوتر العام في البلد. وقد فتح هذا الوضع الباب على مصراعيه أمام قوى عديدة للقفز إلى المقدمة وقيادة غضب الجماهير المتزايد. ومن هذه القوى الحركات الإسلامية وهي الأكثر تنظيماً وتأثيراً في الساحة السياسية الأردنية.
هذا التطور الذي أسهمت سياسات الحكم- قبل أي شيء آخر في نشوءه- تم استغلاله من قبل النظام كفزاعة لتخويف الحراك الشعبي والمجتمع عموماً ووضعهما أمام الخيار الصعب: إما بقاء الحال على ما هو عليه أو تسلم الإسلاميين للحكم.
إن السياسات العقيمة للحكم الأردني هي التي دفعت الأمور باتجاه تعزيز سطوة الحركات الإسلامية على الشارع الأردني. وهي بذلك تكون المسؤولة الأولى عن مثل هذا التطور و لا يحق لها إطلاق أبواق التحذير. فالحل هو في وقف السياسات والممارسات الخاطئة وليس الإصرار عليها إلى الحد الذي يؤدي إلى تأزيم الأمور ويدفعها في اتجاه كارثي.
وبالتالي فإذا أراد الحكم في الأردن أن يجد حلاً للمشاكل التي يجابهها فإن عليه أن يتخذ مساراً أكثر إبداعاً وأكثر شفافية وأكثر صدقاً بحيث يتم خلق قاعدة إجماع عريضة لا يحكمها حزب واحد أو لون سياسي واحد. ولكن إن شاء الحكم أن يُبقي تحالفه التاريخي مع قوى الشد العكسي واختار أن يتعامل مع الحركة الإسلامية باعتبارها الممثل الوحيد الحقيقي للمعارضة، فإنه سوف يعمق الأزمة ويدفعها إلى منعطفات لا أحد يعلم ماذا يكمن ورائها. ويبدو من ظواهر الأمور أن الحكم قد اختار الخيار الثاني. وكانت النتيجة أن اختار الحكم سياسات مناقضة لأماني الشعب في الإصلاح ولكن متوافقة مع نظرة حلفاء الحكم من قوى اليمين المحافظ وقوى الشد العكسي وخرج بسياسات وقرارات منها قانون الصوت الواحد والقانون المعدل لقانون المطبوعات مما أدى إلى تعزيز شكوك المواطنين وقوى الإصلاح في نوايا الحكم تجاه الإصلاح الحقيقي. وفي نفس الوقت أخذ الحكم ينتحب على المقاطعة الشعبية الواسعة للتسجيل للانتخابات واختار أن يوجه هذا النحيب نحو الحركة الإسلامية في الوقت الذي تعامل فيه مع باقي القوى من منطلق الترهيب والترغيب من خلال حكومة جائرة ومن خلال استعمال سطوة مؤسسات الدولة الأمنية والإعلامية والتشريعية في محاولة لفرض وجهة نظر الحكم والحكومة. أسلوب عجيب وغريب للتعامل مع شعب غاضب ووطن مأزوم في حين كان أسلوب الحوار والتفاهم والتنازلات المتبادلة هو الأسلوب الأمثل والأكثر نجاعة. وهذه المواقف الأنانية والسطحية للحكم وضعت الأردن والشعب الأردني أمام خيارات لن تؤدي بالنتيجة إلا إلى خراب الوطن. وأصبح الخيار محصوراً أمام المواطن العادي إما نظاماً بعيداً عن روح الإصلاح وبالتالي عن ضمير وأماني الشعب أو حكم إسلامي إقصائي لا يريده إلا القلة و لا يمثل تعددية الوطن. وَصْفَةٌ لن توصل الوطن إلا إلى الجحيم وخط النهاية. علينا أن لا ننسى أن الأردن بلد صغير وشديد الحساسية للمؤثرات الإقليمية من حوله. والأردن الذي ساهمت سياسات حكوماته المتعاقبة في إيصاله إلى حافة الثورة والهاوية، ليس بمعزل عن المؤثرات السلبية لما يجري حوله من تطورات، خصوصاً في سوريا وأثر ذلك على مستقبله.
إن انهيار سوريا وتمزيقها يُخشى أن يؤدي إلى تمزيق الأردن وإلى فرض حل للقضية الفلسطينية سيكون على حساب الفلسطينيين وعلى حساب الأردن ولصالح إسرائيل. وكل متابع لتطور السياسة الأردنية تجاه سوريا لا يملك إلا أن يتساءل فيما إذا كان مثل هذا التطور غائباً عن ذهن صانع القرار الأردني. فهي مصيبة إذا كان غائباً،والمصيبة أعظم إذا لم يكن غائباً.
إن نهايات ما يجري الآن في سوريا سوف تكون عواقبه وخيمة على الأردن وعلى المنطقة. والنهاية ستكون البداية والمدخل للحل النهائي للقضية الفلسطينية كما تريده إسرائيل وأمريكا. والأردن لن يكون في منأى عن ذلك المخطط وسوف يدفع الثمن، لأن ما هو جيد لإسرائيل لن يكون جيداً لا للأردن و لا للفلسطينيين. إن هذا الحديث لا يعني دعماً لنظام حكم مجرم وقاتل لشعبه كالنظام السوري. ولكن يبقى السؤال الكبير، لماذا هذا الاهتمام الشديد والمفاجئ بحقوق ورفاهية الشعب السوري؟ هل هي صحوة ضمير مفاجئة لدى دول النفط العربية وأمريكا وأوروبا؟ أم هي بداية لتنفيذ مخطط جديد أكبر من سوريا وأكبر من الأردن وأكبر من العرب بل وأكبر من العالم الإسلامي؟
الأردن الضعيف سيكون بوابة العبور إلى تسوية مفروضة وجائرة في فلسطين، إلا إذا أدرك الحكم في الأردن أن قهر إرادة الشعب الأردني لن تؤدي في النهاية إلا إلى إضعاف الدولة الأردنية إلى حد استباحتها من قبل الصديق قبل العدو.
سياسي واكاديمي اردني
د. لبیب قمحاوی
رمز الخبر 183343