لم يستفد نظام الحكم في الأردن من توفر أغلبية واضحة بين صفوف الشعب الأردني لصالح بقاء نظام الحكم الملكي في إطار ملكية دستورية عوضاً عن الملكية المطلقة المعمول بها. ولم يسعَ بالتالي إلى فتح حوار ايجابي مع قوى المعارضة، بل سعى إلى اختطاف حركة الإصلاح والإدعاء بأنه هو ممثلها الحقيقي، وأبقى حواره الرئيسي مع الحركة الإسلامية ( الاخوان المسلمين) وتجاهَلَ باقي قوى المعارضة وهاجمها بهدف وضع الناس أمام خيار واحد: إما الحركة الإسلامية بما تحمله من خطر تشكيل حكومة إسلامية أو بقاء الأمور على ما هي عليه مع إصلاحات شكلية تجميلية. خيار سقيم وغير صحيح كونه خَيَار اللا خَيَار.''
معظم الأردنيين لا يريدون أن يحكمهم نظام حكم إسلامي يسعى إلى إقامة دولة إسلامية. ولكنهم، وفي نفس الوقت، لا يريدون الاستمرار في العيش في ظل نظام حكم مطلق يستند إلى أجهزة أمنية ومخابراتية لا تأبه لشيء إلا تكريس ذلك النظام بشكله المطلق. فالأردنيون لم يثوروا لاستبدال حكم مطلق بحكم مطلق آخر.
من الواضح أن مسار الحكم في الأردن هو مسار معادٍ للإصلاح الحقيقي الذي يلبي المطالب الشعبية بالرغم من اقتصارها على إصلاح النظام عوضاً عن تغييره. ولم يحاول النظام الاستفادة من اعتدال سقف المطالب الإصلاحية بل عمد إلى استعمال سطوة الدولة وأجهزتها الأمنية والإعلامية في مُحَاولةٍ، ما زالت مستمرة، للتشكيك في نواياها وأهدافها، بل وفي انتمائها للوطن باعتبار أن كل القوى المدنية المعارضة لنهج الحكم المطلق هي قوى دخيلة وطارئة على المجتمع الأردني. وقد فرضت هيمنة جهاز المخابرات العامة على الحياة السياسية في الأردن وعلى معظم وسائل الإعلام مجموعة من المفاهيم التي تستند إلى مبدأ واحد، وهو الولاء المطلق للنظام على أساس أن من ليس مع النظام بسلطاته المطلقة فهو ضده، ومن هو ضد النظام فهو ضد الوطن ولا يوجد شيء آخر بينهما. فالمعارضة المستندة إلى برنامج إصلاحي هي من وجهة نظر الأجهزة الأمنية معادية للوطن ولا تنتمي إليه.
مفاهيم عجيبة غريبة لا تمت للدستورية بشيء ولا علاقة لها بالديمقراطية. بل هي امتداد وتجسيد لمفهوم الحكم المطلق الذي يقترب في واقعه من العبودية والاستسلام الكامل من قبل المحكوم للحاكم.
هنالك علاقة تاريخية بين الحكم في الأردن وبين حركة الإخوان المسلمين تعود إلى حقبة الحرب الباردة وصعود الناصرية والمد القومي منذ خمسينات القرن الماضي. وقد استعمل الحكم الهاشمي، حركة الإخوان المسلمين للتصدي للمد الناصري والقومي والشيوعي. وفي حقبة حظر النشاط الحزبي التي أعقبت ذلك بقي الإخوان المسلمون هم الجهة الوحيدة المسموح لها بالعمل السياسي وكأنها امتدادٌ للدولة، في حين تم الانقضاض على باقي التيارات السياسية خصوصاً القوميون والشيوعيون واليسار بشكل عام.
وامتدت هذه السياسة عقوداً استمكن الإسلاميون خلالها في ظل غياب أي منافسة حقيقية. وهكذا كانت الساحة السياسية الأردنية عشية بداية الانفتاح السياسي في الأردن عقب هبة نيسان عام 1989 مفتوحة على مصراعيها أمام حركة الإخوان المسلمين مما أدى إلى فوزهم في انتخابات البرلمان الحادي عشر كأكبر كتلة في ذلك البرلمان. وهذا دفع الملك حسين في حينه إلى محاولة التخفيف من صدمة هذا الفوز على الرأي العام الأردني بالتصريح في خطاب له بعد تلك الانتخابات أن الإخوان المسلمين 'قد خرجوا من رحم النظام (الأردني)' وهي جملة صحيحة ودقيقة. واستمر هذا الحال بين مد وجَزْر إلى عشية تفجر حركة الاحتجاج المطالبة بالإصلاح والتي واكبت الربيع العربي في بداية عام 2011.''
ومنذ بداية حركة الاحتجاج تلك، كان الثابت في موقف الحكم الأردني يتمثل في التعامل مع المعارضة المدنية من منطلق أن تلك المعارضة لا تمثل شيئاً ولا قيمة لها باستثناء الحركة الإسلامية. الهدف بالطبع واضح وهو التقليل من أهمية قوى المعارضة المدنية ومحاولة خلق الوهم بأن المعارضة المؤثرة هي فقط الحركة الإسلامية' وأن على الشعب أن يختار بين الإسلاميين وأسلمة الدولة من جهة، أو بقاء الوضع على ما هو عليه مع بعض عمليات التجميل الإصلاحية، من جهة أخرى.
وقد جاء العمل على إنشاء الجبهة الوطنية للإصلاح كوسيلة لخلق خيار ثالث وهو ائتلاف عريض من كافة قوى المجتمع المدني والأحزاب السياسية، يضم الإسلاميين بين صفوفه، من منطلق أن دور الإسلاميين في الحقبة القادمة يجب أن يكون ضمن ائتلاف مدني واسع وأن انفرادهم بالسلطة أمر غير مقبول نظراً لنزوعهم نحو إقصاء الآخرين. ومع ذلك أصرت الدولة على المضي في موقفها واعتبرت أن هذا الخيار يشكل تحدياً لرؤيتها وبالتالي تعرضت الجبهة الوطنية للإصلاح لهجوم شرس من الحكم ومؤسساته. فالدولة، على ما يبدو، لا مصلحة لها في التعامل مع إطار وطني مدني معارض وواسع حتى ولو ضم الإسلاميين لأن ذلك من شأنه أن يلغي عامل تخويف الشعب من الإصلاح الذي قد يؤدي في النهاية إلى وصول الإسلاميين للحكومة، كما أنه سوف يضع الحكم ونواياه الإصلاحية على المحك ويرغمه بالتالي على التعامل مع المطالب الإصلاحية بصدق وجدية.
لقد جاء انتصار الإسلاميين في تونس ومصر ليعيد خلط الأوراق والحسابات فيما يتعلق بإخوان الأردن. فالمعادلة المحلية البسيطة التي حكمت العلاقة بين الحكم وحركة الإخوان المسلمين بدأت تأخذ طابعاً إقليمياً له أبعاده المؤثرة والخطيرة على تلك العلاقة. ففي حين نجح الحكم في حسم تشابك العلاقة بين إخوان الأردن وحركة حماس وبسهولة نتيجة لسطوة الأجهزة الأمنية حيث تم طرد قادة حماس من الأردن، فإن مثل هذا الإجراء لا يمكن تنفيذه على المستوى الإقليمي حيث اختلطت وتشابكت العلاقة الأيديولوجية وربما التنظيمية بين الحركات الإسلامية المختلفة في الأردن وتونس ومصر وتركيا وما قد تحمله تلك العلاقة من أثر على العلاقات بين نظام الحكم في الأردن والأنظمة الحاكمة في كل من تلك الدول.
وقد ساهمت هذه التطورات الإقليمية في تشجيع بعض قيادات وكوادر إخوان الأردن للتململ المعلن من القيود التي تفرضها عليهم العلاقة التاريخية مع الحكم الأردني، وأصبح إخوان الأردن ينظرون إلى المستقبل برغبة واضحة في استقلال متزايد عن قيود تلك العلاقة. وقد عبر النظام الأردني عن موقفه إزاء تلك التطورات بسياسات متضاربة تراوحت بين الاسترضاء، والتهديد المبطن، والتهديد المعلن، والاستقواء والتحشيد الإعلامي ومحاولات شق صفوف الإخوان من خلال بعض الحلفاء داخل الصفوف القيادية في الحركة الإسلامية.
وهكذا، ابتدأت حرب هادئة بين مؤسسات الحكم وحركة الإخوان المسلمين. فمطالب الإخوان أخذت تخترق سقوفاً محرمة بالنسبة إلى الحكم وكان آخرها المطالب المتعلقة بالتعديلات الدستورية ورفض قانون الصوت الواحد ومقاطعة الانتخابات. وابتدأت مؤسسات الدولة بدورها بالضغط على حركة الإخوان المسلمين بالترغيب حيناً والتهديد أحياناً أخرى. وبالرغم عن كل ذلك، أصرت مؤسسات الحكم على الاستمرار في سياسة التجاهل غير المدروسة لقوى المعارضة المدنية الأخرى. وكان هذا الموقف اعتباطياً ومتزمتاً يعكس غياب أي رؤيا استشرافية لإصلاح متوازن كنقطة بداية. وبعكس ذلك تبنت حركة الإخوان المسلمين موقفاً ذكياً من خلال تحالفها، حتى ولو مرحلياً، مع قوى المعارضة المدنية الأخرى من خلال الجبهة الوطنية للإصلاح. وهي بذلك أثبتت أنها، سياسياً، أكثر نضجاً وأكثر فهماً لحركة المجتمع الأردني وديناميكية قوى الإصلاح فيه، من نظام الحكم ومؤسساته الأمنية وقوى الشد العكسي التابعة له.'
ولكن ما فائدة جبروت أجهزة الأمن والمخابرات في تعاملها مع تطورات حتمية ومتزايدة في اتجاه الإصلاح إذا كان ذلك الجبروت يفتقد إلى رؤيا سياسية تتجاوز أنانية الحكم إلى تكريس مصلحة البلد والاستقرار؟ فالأجهزة الأمنية، وعلى رأسها جهاز المخابرات العامة، تضع الحياة السياسية في البلاد ضمن أجواء ضاغطة وخيارات تكاد تكون معدومة وبشكل يبعث على الصدمة والإحباط لدى العديد من المواطنين الذين يؤمنون بالتغيير والإصلاح ضمن معادلة وطنية سلمية تحمي حقوق المواطنين وتحترم الرأي الآخر وتحافظ على الاستمرارية والاستقرار وتكرس الشفافية وتداول السلطة بالوسائل السلمية.
معادلة عظيمة يتمناها كل حكيم وعاقل، ولكنها لم تحَظَ بالقبول لدى الأجهزة المخابراتية وقوى الشد العكسي داخل مؤسسة الحكم التي بقيت مصرة على اضطهاد الرأي الآخر واعتباره دخيلاً على الوطن ومصالحه، وكأن الرأي الآخر ومن يمثله مسؤولون عن الفساد الذي عمَّ وطمَّ وعن الكوارث الاقتصادية التي ألمت بالبلد وعن حالة العقم السياسي التي تكتنفه.
'إن الزحف التدريجي نحو شعار إسقاط النظام ما زال محدوداً ولا يعكس رأياً عاماً وإن كان يعكس تزايد وتعمق الشعور بخيبة الأمل والإحباط والغضب بين أوساط الشباب نتيجة لسياسات النظام و الحكومات المتعاقبة في الاستخفاف بمطالب الإصلاح ومكافحة الفساد.
إن اعتقال الرأي ومحاكمة قادته وتلفيق التهم لهم، وزج شباب الحراك في المعتقلات وتطويق كل مناطق التجمع الاحتجاجي بالحديد لن يفيد النظام بشيء، بل على العكس سوف يؤجج العواطف ومشاعر الغضب. وشمس النهار، كما نعلم جميعاً، لا يحجبها غربال مهما كبر حجمه.
(سياسي واكاديمي اردني)
لبیب قمحاوی
رمز الخبر 183926