٠ Persons
٢١ يوليو ٢٠١٢ - ١٣:٣٢

أعاد القرار السعودی الاسبوع الماضی بزیادة مشتریاتها من الاسلحة الامریکیة الى 90 ملیار دولار مقابل 60 ملیارا اعلنتها العام الماضی، فتح الملف السعودی من قبل المؤسسات البحثیة والمحللین الاستراتیجیین، بالاضافة للساسة الاقلیمیین. هذا الملف اصبحت فصوله تتوسع لاسباب عدیدة: محلیة واقلیمیة ودولیة.

 

د. سعید الشهابی
أعاد القرار السعودی الاسبوع الماضی بزیادة مشتریاتها من الاسلحة الامریکیة الى 90 ملیار دولار مقابل 60 ملیارا اعلنتها العام الماضی، فتح الملف السعودی من قبل المؤسسات البحثیة والمحللین الاستراتیجیین، بالاضافة للساسة الاقلیمیین. هذا الملف اصبحت فصوله تتوسع لاسباب عدیدة: محلیة واقلیمیة ودولیة. ففیما یتجه الوضع الداخلی نحو المزید من الاستقطاب والتوتر الصامت یجد الحکم السعودی نفسه امام استحقاقات عدیدة یعجز عن التعاطی معها بشکل حاسم، سواء منها ما یرتبط بالاصلاحات السیاسیة ام الحقوق المدنیة فی حدودها الدنیا کقیادة المرأة للسیارات، ام بناء الدولة الحدیثة التی تتجاوز المذهب والعرق والاقلیم. وعلى المستوى الاقلیمی سعت السعودیة فی العقد الاخیر لتوسیع دائرة نفوذها السیاسی بشکل غیر مسبوق، وبدأت تعید بناء موقعها لدور اقلیمی یتجاوز حجمها الطبیعی.
یقول ثیودور کاراسیک المحلل العسکری الذی مقره دبی 'السعودیة تزداد نشاطا فی سیاستها الخارجیة وتحاول بالتوازی مع ذلک زیادة أسلحتها من أجل مجابهة التحدیات المتزایدة الماثلة أمامها الیوم ... تتراوح التحدیات بین ماذا سیحدث فی الیمن وحتى زیادة مخاطر القرصنة فی میاهها.. لهذا فهم یحاولون تعزیز أساطیلهم فی البر والبحر'. ومن المنظور الدولی ثمة اضطراب فی السیاسة الامریکیة تجاه السعودیة، کبرى الدول المصدرة للنفط، والقاعدة المتقدمة التی تؤسس واشنطن علیها سیاساتها الشرق اوسطیة.
لکن هذا الملف لا یکتمل بدون قراءة الملف الخاص بالنظام السیاسی الذی حکم المملکة ثمانین عاما، والذی ما یزال یقلق المهتمین بالشأن السیاسی فی الجزیرة العربیة. اذ لا یمکن قراءة مدى قدرة المملکة على تحقیق رؤاها على المستویات الثلاثة بدون ان یکون نظامها السیاسی مؤسسا على ارضیة صلبة لا تتزعزع امام العواصف التی تستهدف المملکة ککیان وکقوة اقلیمیة وکنظام حکم وکمرجعیة فکریة ودینیة لمجموعات تعتبر نفسها فی صراع متواصل على الصعدان الثلاثة المذکورة.
انه تداخل یصعب تفکیک ابعاده حتى من اقرب حلفاء النظام السعودی، ولذلک یسعى اولئک الحلفاء لتجاوزه ما امکن، والتعاطی مع الملف السعودی من منظور آخر. یتأسس هذا المنظور على اعتبار ذلک النظام غیر قادر، فی الاساس، على مواجهة تلک التحدیات والتعویض عن ذلک بسیاسة ذات ابعاد ثلاثة. الاول توفیر الدعم السیاسی واللوجستی والعسکری للنظام من قبل الاساطیل الغربیة، خصوصا الامریکیة التی تمخر عباب البحار الشرق اوسطیة، مواجهة کافة التهدیدات السیاسیة والعسکریة التی تواجه النظام السعودی لمنع اضعافه او سقوطه، واطلاق ید النظام للاستمرار فی دعم المجموعات الدینیة المتطرفة التی اصبحت احدى وسائل تثبیت دعائم النظام من خلال تعبئة دینیة خاصة، واستهداف مناوئیه المحلیین والخارجیین. وشیئا فشیئا، یتحول المشهد السعودی الى ساحة صراع اقلیمی دولی على غرار ما شهده العالم قبل عشرین عاما عندما توجهت القوات الاجنبیة للمنطقة ودخلت حربا ضد العراق بعد اجتیاح قواته الاراضی الکویتیة. کان ذلک المشهد النموذج الاساس للسیاسة الامریکیة المستقبلیة، فان نجح سیناریو الدفاع عن النظام السعودی (ومعه بقیة انظمة مجلس التعاون) فسوف یتکرر ذلک المشهد مستقبلا لمواجهة الاخطار الاقلیمیة المشابهة. هذا مع الاستمرار فی اغراق الجزیرة العربیة بالاسلحة المتطورة التی تتجاوز مرات عدیدة الاحتیاجات المطلوبة لمواجهة التحدیات المحدودة من قبل المجموعات السیاسیة ذات الاجندات السیاسیة المختلفة کالحوثیین فی الیمن والمعارضة فی البحرین، مع ابقاء الباب مفتوحا للتدخل المباشر فیما لو توسع التحدی بمستوى اکبر مما تطیقه الامکانات المتوفرة لدى البیت السعودی. ان الصراع على النفوذ الاقلیمی بین القوى المتطلعة للحریة والدیمقراطیة والانعتاق من الهیمنة الامریکیة، والقوى الرافضة لذلک سوف یحتدم خصوصا مع استمرار الثورات العربیة. هذه الثورات تهدف لتحقیق خیارات دیمقراطیة غیر مقبولة من قبل السعودیة وحلفائها الغربیین، ولذلک تستمر معاناة شعوب هذه الدول التی تم تحویل ثوراتها الى حروب اهلیة لمنع انتصارها الذی کان یبدو حتمیا فی بدایة الامر.
المستویات الثلاثة من التحدی للحکم السعودی یتم التعاطی معها باسالیب شتى.
ولا یمکن فصل صفقات التسلح العملاقة التی عقدتها الریاض فی العامین الماضیین عن تلک التحدیات. فبعد صفقة تایفون مع بریطانیا التی تقدر قیمتها بأکثر من عشرین ملیار دولار، یأتی الاعلان السعودی عن زیارة مشتریات السلاح من امریکا الى 90 ملیار دولار لیعزز الخوف من احتمال اندلاع صراعات مسلحة بین الدول الاقلیمیة، خصوصا بعد ان تصاعد التوتر بینها منذ إطلالة ربیع الثورات العربیة. فبینما ترى إیران فی تلک الثورات امتدادا طبیعیا لثورتها التی اطاحت بحکم الشاه قبل 32 عاما، تقف السعودیة بکل حزم ضد تلک الثورات، وتتصدى لها بأسالیب عدیدة: اولها تشکیل جبهة تضم القوى المضادة للثورة وتشمل بالاضافة للسعودیة کلا من الولایات المتحدة وبریطانیا، وثانیها: دعم الانظمة المهددة بالسقوط مادیا وعسکریا وامنیا وسیاسیا، کما یحدث فی الیمن الذی تستمر ثورة شعبه ضد نظام علی عبد الله صالح، وثالثها: السعی لتحویل الثورات الى حروب اهلیة کما یحدث فی لیبیا وسوریة، لان الثورة اذا تحولت الى صراعات مسلحة تختلف طبیعتها وتصبح اکثر احتیاجا للدعم الخارجی کما حدث فی لیبیا. وتسعى السعودیة لاثارة حرب اهلیة فی الیمن بعد ان فشلت فی محاولاتها لحمایة نظام علی عبد الله صالح. رابعها التدخل المباشر عندما یقتضی الامر کما حدث فی البحرین. فنظام الحکم السعودی یواجه تحدیات ذات اشکال عدة منها: اولا انه الابعد فی طبیعته وآلیاته عن الدیمقراطیة والتمثیل الشعبی عبر الشراکة، والتعددیة.
وبالتالی فهو یستعصی على الاصلاح والتطور لینسجم مع المعاییر الدولیة للحکم الصالح.
وتطرح هنا مقولات مثل 'الخصوصیة الثقافیة' و'العادات الاجتماعیة' وغیرها. ثانیا ان ای تحول فی المحیط الاقلیمی نحو دیمقراطیة حقیقیة سوف ینعکس بشکل مباشر على الاوضاع الداخلیة للسعودیة التی لن تستطیع فصل شعبها عن التأثر بروح التغییر والانفتاح والاصلاح السیاسی. ثالثها: ان انتصار الثورات سوف یغیر التوازن السیاسی والایدیولوجی فی المنطقة لغیر صالح الحکم السعودی، وسوف یفتح المجال لاحقا لقیام تحالفات عربیة اسلامیة واسعة تشمل مصر وترکیا وبقیة الدول التی سوف تشهد تغییرات فی انظمة حکمها. رابعا: ان الولایات المتحدة تقف بجانب السعودیة ضد التغییر، وقد اصبح واضحا ان واشنطن لم تعد داعمة لتغییرات جوهریة خارج دائرة نفوذها. وما تلکؤ مواقفها فی لیبیا الا مؤشر لذلک. بل ان هناک ضغوطا على المقاتلین فی ذلک البلد للتفاوض مع نظام القذافی!
والسؤال هنا: ما مغزى اغراق المنطقة بالسلاح؟ ومن هو المستهدف بهذه الصفقات العملاقة؟ ما ایدیولوجیاتها؟ أهی للتصدی للاحتلال والعدوان؟ أهی من اجل تحریر فلسطین؟
أهی لرفع شأن العالم العربی الدیمقراطی ودعم اطروحاته السیاسیة المنفتحة بما تحتاجه من ذراع عسکریة ضاربة ام لتخویف الشعوب والتهدید بقمعها ان استمرت فی طریق الثورة؟
أیا کان موقف المواطن العربی المسلم، مثقفا کان ام امیا، فلن یستطیع تبریر هدر اموال الامة لتمویل مصانع السلاح الغربیة، فی الوقت الذی تعانی فیه البلاد المحررة من قبضة انظمة الاستبداد من ازمات اقتصادیة کبیرة. کما ان من الخطأ الشنیع ان تستورد الاسلحة والطائرات بهدف الاستعمال ضد المواطنین عندما یطالبون بحقوقهم. لقد انتهت صفقة 'الیمامة' الى العدم بعد ان کلفت المیزانیة السعودیة 85 ملیار دولار.
وبالاضافة لصفقتی السلاح الاخیرتین مع بریطانیا والولایات المتحدة، ذکرت مصادر سعودیة ان السعودیة اشترت 44 دبابة من نوع (لیبارد) من ألمانیا فی المرحلة الاولى من صفقة بعدة ملیارات من الدولارات لشراء 200 دبابة. وهذه الصفقة ضمن حزمة من المنح قیمتها 93 ملیار دولار قررتها العائلة المالکة لتعزیز الدعم للشرطة وقوات الامن. ان الانفاق السعودی الهائل على هذه الصفقات اهدار غیر مبرر للاموال، وسیاسة تعبر عن غیاب مشاریع التنمیة البشریة او المادیة. هذا الانفاق غیر المحدود على السلاح الذی لم یستخدم ضد عدو حقیقی للامة، بل وجه الى صدور المطالبین بالحریة فی الجزیرة العربیة، یؤکد استحالة اقامة نظام عصری یمارس رقابة حقیقیة ومحاسبة مسؤولة لمن یتلاعب بالمال العام، او یوجهه بطریقة غیر اخلاقیة بهدف تحقیق دعم سیاسی من اعداء الامة. انه تعبیر صریح عن حالة التباین فی المواقف والرؤى بین اجیال تتطلع
للمشارکة فی الحکم والادارة والبناء، وفئة تتوارث الحکم کحق مقدس لا یحق لأحد المساس به او مناقشته. فاذا کانت مقولة التفویض الالهی قد تلاشت منذ قرون، فانها ما تزال تحکم تصرفات حکام المنطقة الذین استحوذوا على الحکم بالقوة وصادروا حقوق الناس فی الحکم والادارة.  ان مشاکل الوضع السعودی لیست محصورة ببعد واحد. فمنع النساء من قیادة السیارات انما تمثل نقطة البدء لای تقییم للاوضاع السیاسیة والاجتماعیة فی هذا البلد الذی سیظل محور اهتمام اقلیمی ودولی زمنا طویلا. ولا تقل عن ذلک اهمیة مسألة الاستخلاف وانتقال السلطة بین رموز عائلة آل سعود، خصوصا بعد وصول الجیل الحالی الى نهایة طریقه فی وراثة الحکم. هذه مسألة تقلق حلفاء آل سعود من الغربیین بدرجة لا تقل عن قلق رموز العائلة انفسهم، خصوصا فی ضوء الحراک السیاسی فی
المنطقة. اما الاصلاح السیاسی الذی لم یتوقف الحدیث بشأنه قط، فهو من اکبر التحدیات التی تواجه آل سعود وداعمیهم، لان نظام الحکم السعودی ببساطة، لا یمکن اصلاحه لسببین: اولهما انه بدرجة من التخلف تحول دون القدرة على ترقیعه، وثانیهما: غیاب ارادة الاصلاح والتغییر لدى رموزه. یواجه الحکم السعودی ایضا تحدیات من نوع آخر ناجمة عن عقلیة الاقصاء وتکفیر الآخرین، وفقا للمدرسة الفقهیة التی تحالفت مع الحکم واصبحت سلاحا ماضیا بیدیه، یستعمله ضد خصومه متى شاء، ولتحقیق اهدافه خصوصا فی اطار الثورة المضادة لمنع استقرار الانظمة التی قامت بفعل الثورات فی مصر وتونس.
هذا التحالف السیاسی ـ الدینی یعتبر واحدا من اهم اسباب تصاعد التوتر خصوصا فی دول مجلس التعاون الخلیجی بین المواطنین على اساس الانتماء المذهبی، وهی ظاهرة لا تعبر عن قیم الدولة الحدیثة التی یفترض ان یکون القانون فیها هو الفیصل بین المواطنین، وآلیة فاعلة لحمایة الحقوق ومنع الظلم والاستغلال والابتزاز.
ولا یبدو ان الحکم السعودی قادر على التعاطی بشکل جاد مع هذه التحدیات والقضایا، خصوصا مع توجهاته الجدیدة ـ القدیمة لتوسیع دائرة نفوذه الاقلیمی. وتمثل ثورة الیمن واحدة من اکبر التحدیات للحکم السعودی، لان نجاح الثورة وفق ما تریده الجماهیر سوف یکون سکینا فی خاصرة الحکم السعودی. والملاحظ ان السعودیة تتعاطى مع مجلس التعاون الخلیجی کأداة للاستعمال وقت الحاجة فحسب. فکان هناک التدخل العسکری فی البحرین الذی حدث باسم 'قوات درع الجزیرة' التابعة للمجلس، برغم اختلاف بعض دول المجلس مع السیاسة السعودیة خصوصا بعد ارتکاب الفظاعات فی البحرین. وکانت هناک ما سمی 'مبادرة مجلس التعاون' التی طرحت لمنع سقوط نظام علی عبد الله صالح وإجهاض ثورة الیمن، والواضح ان الخطوتین لم تؤدیا النتائج المرجوة، وما یزال ربیع الثورات یتحدى محاولات اجهاضها.
السعودیة تقف على فوهة براکین عدیدة. فاذا کانت العائلة السعودیة قد استطاعت تعطیل انفجار برکان الثورة على اراضیها سواء بالقمع ام الانفاق الهائل لشراء المواقف وإسکات الاصوات المعارضة، فانها ما تزال تواجه مستقبلا غامضا مع استمرار الشعوب العربیة فی النهوض وتحدی المعوقات السیاسیة والامنیة التی تضعها قوى الثورة المضادة فی طریقها. واذا کانت مشاعر رموز الحراک السیاسی تتعرض للکتمان والتحفظ بهدف
عدم اثارة حفیظة الریاض، فقد تصاعدت الانتقادات للسیاسة السعودیة على السنة قیادات الثورات فی البلدان المختلفة. فمن تونس الى مصر الى الیمن وصولا الى البحرین ارتفعت الاصوات ضد سیاسات التدخل السعودی للتأثیر على مسار الثورات بحرفها او اجهاضها او تعطیل حسمها. ومع تصاعد ملامح التوتر الطائفی والدینی فی لیبیا ومصر والیمن وسوریة والبحرین اصبحت الاصابع تشیر بوضوح الى دور المجموعات السلفیة المرتبطة بالسعودیة فی خلط الاوراق لمنع تبلور مواقف وطنیة حاسمة ضد الاستبداد والتبعیة والتخلف. الثورات تعبیر صاخب عن مشاعر المواطنین العرب جمیعا إزاء ما یتعرضون له من قمع واضطهاد وتهمیش من قبل انظمة الحکم الاستبدادیة فی بلدانهم. وهی صرخة من الضمیر ضد استمرار الهیمنة والتبعیة للغرب الداعم للاحتلال الاسرائیلی على حساب حقوق الشعب الفلسطینی. وقد رأت السعودیة انها المعنیة الاولى بهذه الثورات لانها تتعارض مع نظام حکمها وسیاساتها الصدیقة للغرب والمستعدة للتطبیع مع 'اسرائیل'.
وانتهجت بسبب ذلک سیاسات لا تتناغم مع تطلعات الشعوب العربیة خصوصا فی مجالات التسلح غیر المبررة والاستهداف المباشر للثورات والتحالف مع اعداء الامة ضد تطلعات شعوبها.
السعودیة تمر بمأزق کبیر، برغم ما یبدو من استقرار لنظام الحکم، والسؤال لم یعد حول ما اذا کان التغییر سوف یصل الجزیرة العربیة، ولکن متى؟

' کاتب وصحافی بحرینی یقیم فی لندن
30449

رمز الخبر 182690