٠ Persons
٢٧ أكتوبر ٢٠١٢ - ١٢:٢٩

د. کمال الهلباوی

 
 
 
 
خبرأونلاین-بناء المستقبل الحضاری بعد ثورات الربیع العربی وبعد قتل أهم أرکان الفساد والدیکتاتوریة والظلم أو هروب ذویها، یحتاج إلى عدة أمور من أهمها وفی مقدمتها، الاستقلال الوطنی الکامل، والتعاون والتکامل مع الآخرین، وتسخیر کل الامکانات والقدرات الوطنیة لخدمة الهدف الکبیر، والاستفادة من التجارب السابقة والبناء علیها، وفق رؤیة واضحة، وخطط دقیقة لتنفیذ تلک المهمة الوطنیة الاستراتیجیة.
أما بشأن الاستقلال الوطنی وهو العنصر الأول الفاعل فی بناء مستقبل حضاری معاصر، فهو یعنی التحرر الکامل من الهیمنة الخارجیة والتسلط الداخلی. والهیمنة الخارجیة - على سبیل المثال لا الحصر- إما أن تکون هیمنة فکریة أو ثقافیة أو إجتماعیة أو سیاسیة أو إقتصادیة أو أمنیة أو تقنیة أو مجتمعة. ولا یجد المواطن العربی على إمتداد العالم الاسلامی، جغرافیا، صعوبة فی أن یلمس تلک الهیمنة أو آثارها کلاً أو جزءاً.
وتتمثل هذه الهیمنة الأمنیة مثلاً فی القواعد العسکریة فی بلادنا وحاملات الطائرات والسفن الراسیة فی بحارنا، وقوات المارینز فوق أرضنا، هذا إذا اعتبرنا أنفسنا أمة واحدة کما یقول القرآن الکریم. ومن الهیمنة، التغریب الفکری والثقافی والاجتماعی الذی یمسخ شخصیة المواطن العربی أو المسلم فیکون مواطناً عربیاً أو مسلماً، ولکن بعقل أمریکی، وتفکیر أمریکی، أو غربی عموماً وسلوک أمریکی، فی کل شیء، إلا عقلیة البحث والتفوق والتقدم التقنی، وبسلوک غربی ممسوخ نتیجة تأثیر مناهج وبرامج التعلیم والاعلام والثقافة والتشریع واختلاف البیئة والدین والقیم الذی یعین فی ذلک المسخ والافساد، ولا یسهم أبداً فی بناء شخصیة ذات إستقلال وطنی.
والاستقلال الوطنی یعنی داخلیاً التحرر من کل القیود الظالمة فی الوطن الذی بدون الاستقلال الکامل والتحرر- یعتبر کالسجون، حتى تحولت بعض الأوطان العربیة والدول المسلمة إلى سجون واسعة جغرافیاً لا یهرب منها المظلوم أبداً إلا قلیلاً، وزنازین ضیقة على المواطن، نتیجة الحد من الحریات، والضغط الأمنی، والمنع من السفر بدون أسباب واضحة، وبسبب اتهامات ظالمة، ومحاکمات عسکریة للمدنیین، وتسلط حزب واحد أو فریق واحد أو أکثر، على الوطن بالضغط والاکراه دون تحسن ملموس ودون التشریع والتنمیة الضروریة ولا التوافق المطلوب وبسبب البطالة والعشوائیات. ولذلک فإن أوطاننا متخلفة عن رکب الحضارة المعاصرة أو الاسهام فیها، وأصبح الحل الیسیر هو اللجوء إلى الخارج لحل مشکلات وتحدیات الداخل حتى الأمنی والاقتصادی منها. إن الغرب لا یتدخل فی بلادنا دون تمهید وعملاء، لا یتدخل إلا وقد إکتملت له الطاعة والطلب وتم تمهید الأرض وتسخیر العقول الضعیفة له، حتى یبدو الغرب مساعداً لنا فی حل المشکلات وعلاج التحدیات. وما اللجوء إلى صندوق النقد الدولی أو الوکالات العالمیة الأخرى إلا خطوة واضحة على طریق تأکید الهیمنة الخارجیة والتسلط الداخلی، وفق موازین القوى والنظام العالمی القائم وإن بدا ذلک کمساعدة، وتفضل علینا من تلک المؤسسات والأجهزة.
ولا ننسى أن جزءاً مهماً من أموال صندوق النقد هی أموال عربیة تستخدم لإذلال العرب، وکذلک فإن بعضنا یسرع فی اللجوء إلى الغرب لحل مشکلات الدیکتاتوریة والظلم فی بلادنا باسم المساعدة أیضاً، ونحن أمة ینبغی أن نعلّم العالم العدل والمساواة والحریة المنضبطة والقیم العظیمة. کم یؤلمنی أن أقرأ أن الکونجرس الأمریکی- على سبیل المثال- یوافق أو لا یوافق على المساعدة لمصر، وطبعاً أمریکا لیست هیئة خیریة تساعد مصر أو غیرها مجانا، ولا بد من ثمن مدفوع عرفه الشعب أم لم یعرفه. فمتى نقرأ أن مجلس الشعب (البرلمان) المصری أو مجلس الشورى، فی مصر یدرس تقدیم مساعدات للمحتاجین فی الوطن العربی أو الأمة الاسلامیة فی أی ناحیة من النواحی الحیویة، تأکیداً لقول المصطفى صلى الله علیه وسلم 'الید العلیا خیر من الید السفلى' أو المؤمن القوی خیر وأحب إلى الله من المؤمن الضعیف.
أما المحور الثانی فهو محور التعاون والتکامل مع الآخرین. الآخرون هنا تعنی مجموعة من الدوائر هی دائرة العرب أو الدول الأعضاء فی الجامعة العربیة، والدائرة الاسلامیة، أعضاء منظمة المؤتمر الاسلامی، ودائرة دول حرکة عدم الانحیاز، ثم بقیة دول المجتمع العالمی. والتعاون وصولاَ إلى التکامل مهمة جدیرة بالتقدیر، ودراستها دراسة معاصرة واجب من أولى الواجبات الوطنیة، وتحتاج أولاً إلى بناء الثقة المفقودة بین هذه الدول کدوائر، وخصوصاً بعد ثورات الربیع العربی، وبعد التصنیف الجدید الذی حدث نتیجة تلک الثـــورات، التی أزعجت بعض الدول العربیة الغنیة بالنفط تلک التی تفسد الدائرة بتبعیتها للغرب وسلوکها، وبعد إختفاء أسماء کانت ظالمة وتتفنن فی أن تعوق مسیرة التعاون والتکامل مثل القذافی على سبیل المثال لا الحصر.
وهذا التعاون وصولاً للتکامل یجب أن یکون فی المیادین الحیویة الحاسمة مثل، الناحیة الاقتصادیة والصناعیة والأمنیة والتعلیم والبحث، مع إفتراضنا امکانیة حدوث هذا الأمر وتحقق هذا الأمل. نقول إذا فعلنا ذلک لما إستطاعت قوة فی الدنیا أن تقف ضد هذا التعاون أو التکامل ونخرج من ذملة الخوف من إسرائیل ومن وراءها. ولنا فی التجارب الانسانیة العدیدة فی الغرب والشرق نماذج جیدة، یمکن أقلمتها والاستفادة منها، إذ لیس هناک ما یحول دون ذلک إذا توافرت الارادة والهمة. فالارادة هى بدایة التحرک، والهمة هی التی تدفع التحرک فی الطریق الصحیح، وتسیر به إلى الأمام بصفة مستمرة.
أما المحور الثالث فهو تسخیر کل الامکانات والقدرات الوطنیة لخدمة الغایة الکبرى، سواء کانت تلک القدرات بشریة أو مادیة، ونحن مسؤولون عنها أمام الله تعالى فضلاً عن ضرورة استخدامها عقلاً بعد الإهدار المتعمد خلال عهد المخلوع. وهذا یقتضی الاستفادة من الکفاءة أینما کانت وکیفما کانت، وفی ضوء مغزى ومعنى الحدیث النبوی' من ولى أحداً ولایة لقرابة أو صلة، وفی المؤمنین من هو أفضل منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنین'، وذلک حرصاً على الاستفادة من الطاقات والقدرات لصالح الوطن فالأمة، حیث إنتشر الفساد فی النظام العام فی بلادنا وملأ أرکانها، واعتمد الحکام والمسؤولون على ذوی القربى والصلة والنفاق وما یسمى بأهل الثقة، أکثر من البحث عن الکفاءات وتولیتها المهام والمسؤولیات التی تدفع الأوطان إلى الأمام. ولیکن لنا فی عمل الغرب فی هذا المیدان نبراساً، حیث یبحث الغرب عن أهل الکفاءة مهما کانوا ومهما کانت إنتماءاتهم وما قصة فاروق الباز ولا أحمد زویل ولا مجدی یعقوب وغیرهم عنا ببعید، حینما وجدوا البیئة العلمیة المناسبة أبدعوا وأحسنوا فی أمریکا، ولو بقوا فی مصر لکانوا فی وظائف بیروقراطیة وبدون أدوات بحث مناسبة وما سمع بهم أحد، وما خدموا البشریة فی شیء حتى الیوم.
أما المحور الرابع فیتمثل فی الاستفادة من التجارب السابقة والبناء علیها، فلنا کأمة عربیة واسلامیة فی ذلک فضل کبیر عندما کان العرب والمسلمون فی أرقى بیئة علمیة عالمیة، وکان لهم إسهام علمی فی الطب والجبر والریاضة والفلک والتشریع والهندسة... إلخ وکان هارون الرشید یقول للسحابة: أمطری حیث شئت فسیأتینی خراجک. ثم استفاد منه الغرب فی شتى المجالات العلمیة، وقتما کان الغرب یمر بمرحلة العصور المظلمة. ولا بأس أن نستفید من التجارب الأخرى، بشرط أن نأخذ ونعطی، ونشارک ونسهم فی التطویر من خلال البحوث والدراسات العلمیة الدقیقة، وهی من المیادین المهملة کثیراً فی بلادنا حتى أن الکیان الصهیونی المسمى إسرائیل، ینفق على هذا المیدان أکثر من کل ما ینفقه العرب، مع الفرق فی الامکانات والقدرات 'فالاسلام کما یقول الامام البنا: الاسلام یحرر العقل، ویحث على النظر فی الکون، ویرفع قدر العلم والعلماء، ویرحب بالصالح النافع من کل شیء، فالحکمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها'.
وهذا الاستقلال الوطنی والتحرر والتعاون والتکامل بین الأمة، وحسن استخدام الامکانات والقدرات والاستفادة من التجارب السابقة کل ذلک، یعین کثیراً فی خروج الأمة من التخلف ویقضی على الوهم بأن الهیمنة حمایة، أو أن الغرب یقدم لنا مساعدات وکأنه هیئة إغاثة، کما أن هذا الاستقلال الوطنی یحول دون تحمل المزید من الأعباء والقضایا وخصوصاً عندما تبدأ الأمة فی وضع حلول عملیة للقضایا التی أثقلت کاهلنا بدءاً بقضیة فلسطین، کما سیسهم الاستقلال الوطنی فی علاج المرض نفسه ولیس ظاهر المرض، إذ أن قرارات المؤسسات الرسمیة العربیة والاسلامیة ظلت حبراً على ورق أو عملت الدول نفسها ضدها ومن ذلک إتفاقیة الدفاع العربی المشترک وقرارات المؤتمر الذی عرف بمؤتمر اللاءات الثلاث فی الخرطوم، لا للتفاوض، لا للصلح، لا للاعتراف، وإنقلبت لا إلى نعم للثلاث أمور بلا حیاء ولا خجل، فحدث التفاوض وجرى الصلح وحصل الاعتراف.
هذا الاستقلال الوطنی الکامل قد یدفع الأمة إلى البحث عن الحلول الاستراتیجیة التی تعتمد على فقه المآل أی ما تؤول إلیه الأوضاع فی ظل عمل ما أو فتوى ما، ولو حدث ذلک لتغیرت الأوضاع فی کثیر من القضایا ومنها سوریا، وتم ملء الفراغ المتوقع قبل حدوثه، أما الیوم وفی ظل الهیمنة الغربیة فقد لا یملأ العرب ولا المسلمون الفراغ المتوقع فی سوریا، وقد تملأه أمریکا وإسرائیل، حیث أن الوضع والتدمیر فی سوریا أمام المحلل الاستراتیجی لا یفضی الیوم إلى خیر أبداً، فقد حدث الدمار وخسرت جمیع الأطراف المحلیة والاقلیمیة، وفی إنتظار من یملأ الفراغ. ونتمنى للثورة السوریة النجاح لیس فقط ضد نظام بشار بل ضد التخلف والهیمنة کذلک.
 
' کاتب مصری

 

رمز الخبر 183520