بعد الحوادث الامنية والسياسية الاخيرة في كل من تونس ومصر سيتصاعد نقد تجربة حكم التيارات الاسلامية في العديد من الدول العربية، ومعه محاولات اقصائهم من قبل اعداء الاسلام السياسي او مناوئيه سواء من داخل اوساط المسلمين ام الغربيين. وهناك بضعة اعتبارات تشكل بمجموعها او منفردة الدوافع لاقصائهم او افشال تجربتهم، وهي اعتبارات يختص كل منها او بعضها بجهة دون اخرى.
من هذه الاعتبارات: اولا الموقف من الكيان الاسرائيلي، وما اذا كان الاسلاميون سيلتزمون بشعاراتهم التي طالما دعت لتحرير ارض فلسطين كاملة. وهذ الاعتبار يخص الغربيين بشكل اساسي لانهم ملتزمون بحماية ذلك الكيان كاستراتيجية ثابتة. كما انه هم عربي اسلامي يحظى باهتمام خاص لدى الجماهير العربية والمسلمة.
ثانيا: مدى قدرة الحكام الاسلاميين على حماية الامن وضمان استقراره في بلدانهم والمنطقة، وكذلك مدى قدرتهم على ترويض المجموعات المتطرفة.
وبشكل عام فان هذا امر يمكن تحقيقه ما لم تكن هناك تعبئة ضدهم لتحريك مناوئيهم لتفجير الاوضاع، كما حدث في العراق.
ثالثا: مدى قدرة الاسلاميين على اقامة حكم القانون والسماح بالحريات العامة ضمن اطر الدساتير التي يفترض ان تقرها الشعوب باستفتاءات عامة.
رابعا: مدى قدرة هؤلاء على استئصال الفساد المالي والاداري من اوساط الحكم، وهي ظاهرة مهما كانت محدودة فان اعداءهم يسعون لتضخيمها واستخدامها ضدهم واضعاف الدعم الشعبي لهم. فعامة المواطنين يدعمون الاسلاميين باعتبارهم 'اصحاب دين' يفترض ان ينأوا بانفسهم عن الفساد وسرقة المال العام او اساءة استخدامه، فاذا ثبت عكس ذلك فسرعان ما تتراجع شعبيتهم ويفقدون القدرة على الاستمرار في الحكم. الاعتبار الخامس يتمثل بما اذا كان الاسلاميون قادرين على التشبث بمبادئهم وقيمهم وعدم التنازل عنها او المساومة عليها. فكثيرا ما يختلف تصرفات الافراد والجماعات عندما تصل الى موقع السلطة. وينقل عن الشهيد محمد باقر الصدر قول مفاده: قد تصبرون على السجون والمعتقلات والمنافي ولكن هل اذا توفر لكم (الاسلاميين) حكم الرشيد، تستطيعون الصمود امام اغراءات المنصب والجاه والمال؟.
هذه الاعتبارات ماثلة بشكل او آخر في اذهان الآخرين الذين هالهم وصول الاسلاميين الى مواقع السلطة في بلدان عربية شتى خصوصا مصر وتونس والمغرب، وقبل ذلك في السودان وايران. وستظل موضع رقابة ومتابعة مستمرتين سواء بدوافع سياسية ام معيشية، وبذلك فان فوزهم بانتخابات هنا واخرى هناك ليست ضمانا لبقائهم في الحكم طويلا. هذه الاعتبارات تتفاوت في مدى حضورها لدى الافراد والمجموعات والدول، ويتفاوت حجم الاهتمام بها. فالغربيون مثلا يتعاطون مع الابعاد الاستراتيجية للحكم الاسلامي، وانعكاساته السياسية على وجودهم ومصالحهم في المنطقة وكذلك على شعوبهم التي تشهد تحولات نفسية ودينية لا تنفصل عن الحضور الاسلامي القوي في المشهد السياسي. فحتى العنف والارهاب لهما تأثير على مدى الاهتمام بالاسلام كدين وعقيدة، حيث اظهرت الاحصاءات ان الاقبال على الاسلام واقتناء نسخ القرآن الكريم تضاعف في الفترة التي اعقبت حوادث 11 سبتمبر الارهابية. وربما ساهمت هذه الظاهرة في اقناع الغربيين بعدم جدوى التصدي للظاهرة الاسلامية بشكل مكشوف، خصوصا بعد ان اتضح ان سياساتهم المؤسسة على الحرب لم تحقق نجاحات تذكر. الواضح ان الغربيين ادركوا تكلفة الحروب وعدم جدواها، واصبحت حربا العراق وافغانستان مفعمتين بالذكريات الاليمة وعدم تحقيق النتائج. كما انهما اديا الى اختلاف وجهات النظر والمواقف بين جانبي الاطلسي. وتغير تكتيك الحرب من المواجهة العسكرية المباشرة الى استهداف العناصر الارهابية بطائرات 'درون'. وبرغم قتل العشرات من عناصر القاعدة الا ان ما يسمى 'الحرب ضد الارهاب' لم تحقق النتائج المتوخاة بانهاء ملف الارهاب القاعدي. وجاءت حوادث الجزائرمؤخرا لتفتح جبهة اخرى في العمق الافريقي. وتعتقد بريطانيا ان انسحاب الامريكيين من العمل العسكري المباشر ساهم في عودة الارهاب وتمركزه في المناطق الرخوة من القارة الافريقية.
ايا كان الامر فان هذه الحروب لم تقص الاسلاميين عن الحكم بل جاءت بنتائج عكسية لامور عديدة: اولها انها ساهمت في فرز حالتين متوازيتين: عنف وارهاب وتطرف من جهة، وحضور ميداني بطابع ديني عميق من جهة ثانية. هذا الفرز ادى الى وضوح الرؤية لدى غالبية جمهور المسلمين، الذين يحتضنون المشروع الاسلامي ولكن بدون عنف المجموعات المتطرفة. ثانيا ان التدخلات العسكرية الغربية في المنطقة ساهمت في توسيع الفجوة النفسية والايديولوجية بين الشارعين العربي والاسلامي من جهة والقوى الغربية من جهة ثانية. ثالثها ان هذه التطورات ادت الى توسع الفجوة لتوفر للتيارات الاسلامية السياسية فرصا جيدة من العمل السياسي وحصد ثمار الثورات والتغيرات السياسية الايجابية التي اعقبت ثورات الربيع العربي. الامريكيون ادركوا ان من غير المجدي الاستمرار في الخيار العسكري المباشر، وان من الممكن التعايش مع التيارات الاسلامية في الوقت الحاضر على الاقل مع انتهاج سياسات الاحتواء والاغراء وعدم الاستفزاز مع التيارات الاسلامية 'المعتدلة'. ولكن هذه السياسة هي الاخرى لا تخلو من مخاطر على الجانبين: الغربي والاسلامي. فالغربيون سيجدون ا نفسهم امام زخم سياسي جديد بطابع اسلامي وابعاد ايديولوجية. والاخطر من ذلك ان هذا التنامي سيؤثر تدريجيا على المصالح الغربية التي ما تزال تتبنى الانظمة الاستبدادية وتدافع عنها، فيما تبذل الجهود لسحب البساط من تحت ارجل الاسلاميين. هذه المعادلة غير متيسرة الا ضمن حدود ضيقة. فديناميكية الحراك السياسي في المنطقة اصبحت اكثر تعقيدا وتداخلا ولا تسمح باستشراف نتائجها بسهولة. اما على الجانب الاسلامي، فان الحكم يمثل تحديا كبيرا بابعاد اخلاقية وايديولوجية وسياسية. فهناك شارع عربي اسلامي يتأثر بالاعلام المعادي للمشروع الاسلامي، وهو اعلام يمتلك قدرة كبيرة على التأثير. فهو يبحث عن نواقص تجارب الاسلاميين ويعرضها باساليب مؤثرة ويساهم في إحداث اضطرابات سياسية ومجتمعية تجعل مهمة الاسلاميين صعبة جدا. مشكلة اغلب الاسلاميين انهم ما يزالون يتعاطون مع التحديات المحلية وكأنها منفصلة عن المشروع الغربي الذي يتبنى خططا تشمل كافة البؤر الساخنة مع اختلاف في مصاديق تدخله بين بلد وآخر.
ان من السابق لاوانه اصدار احكام قاطعة على التجربة الاسلامية في الحكم، خصوصا مع استمرار استهداف تلك التجربة من قبل اصحاب المشروع الغربي الذي يسعى لمنع اية منافسة حقيقية لنفوذه او صعود مشروع سياسي ايديولوجي آخر. فايران التي تحتفل هذه الايام بمرور 34 عاما على تجربتها الاسلامية محاصرة من كل جهة، عسكريا وسياسيا واقتصاديا. وهي تواجه محاولات متواصلة لاحتواء مشروعها بكافة الاساليب. الغرب ينظر اليها انها قطب الرحى في المشروع الاسلامي المعاصر، وانه نجح في تأجيل وصول الرياح الناجمةعن السونامي الايراني ثلاثين عاما، على امل ان يتم اجهاض التجربة الايرانية ومنع اشعاعها على العالمين العربي والاسلامي. وبالاضافة لاشكال الحصار المذكورة استخدم الغربيون السلاح الطائفي لصد رياح التغيير التي كانت ستنبعث من الشرق. مع ذلك قامت ثورات الربيع العربي ووصل الاسلاميون الى الحكم في عدد من البلدان. وكما تمت الاشارة فان ذلك لا يكفي للاعتقاد بان المعركة الايديولوجية والسياسية قد انتهت، بل انها تشهد فصولا متوالية كلما انطلق حراك سياسي هنا وآخر هناك. فليس مستبعدا مثلا ان تعقب الانتخابات الاردنية التي اجريت الشهر الماضي وقاطعها الاسلاميون احتجاجات ضد نظام الحكم الملكي في هذا البلد الذي لا يمكن فصله عن محيطه الثائر.
وكما ان الصراع بين الغرب وايران مستمر منذ اكثر من ثلاثة عقود فمن المتوقع كذلك ان تنشب حرب باردة على اقل تقدير بين الغرب وانظمة الحكم الجديدة خصوصا التي يهيمن عليها الاسلاميون. وسيظل الوضع المصري مصدر قلق للغربيين بعد صعود الاخوان المسلمين الى الحكم، برغم ما يبدو من تنازلات هنا واخرى هناك لطمأنة الغربيين. وما التوتر الحالي الذي ادى لفرض احكام الطوارىء، وهو تطور خطير بدون شك. المشروع الذي يمثله الاخوان لا يختلف في آفاقه السياسية والفكرية عن مشروع الحكم الذي قامت عليه الجمهورية الاسلامية الايرانية. فجوهر القضية ارتباط انظمة الحكم بما يسميه الغربيون 'الاسلام السياسي'. واذا كان القلق من استمرار ظاهرة العنف المرتبطة بتنظيم القاعدة قد ادى الى الحروب التي شهدتها المنطقة في العقدين الماضيين، فان صعود الاسلاميين الى سدة الحكم في اكثر من بلد عربي، واستمرار الغليان السياسي في اغلب البلدان التي لم تنطلق ثوراتها بعد، اصبح يمثل قلقا حقيقيا وتجسيدا لصراع قيمي وايديولوجي لن يمكن احتواؤه بسهولة.
من هنا يجدر بالاسلاميين الاهتمام بالاعتبارات التي طرحت سلفا، والتحاور الجاد بشأنها. انها ليست وساوس شيطانية بقدر ما هي تجليات لمخاطر حقيقية ستظل قائمة ما دام هناك وعي شعبي ورغبة في اقامة حكم القانون واسقاط انظمة الاستبداد والقضاء على حالة التبعية التي عششت في المنطقة طويلا وحالت بين شعوبها وبين التنمية والاصلاح والحرية. لا شك ان الغربيين يتطلعون لاحتواء الظاهرة خصوصا في بعديها الحضاري وارتباط ذلك بالصراع مع الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. والحل هنا لا يكمن في التخلي عن المسؤولية تجاه ارض المعراج، او السعي للتطبيع مع الاحتلال، بل يتطلب ضغوطا متواصلة على طريق التحرير وانقاذ شعب فلسطين من ذلك الاحتلال الغاشم.
اما لجهة الانتماء الفكري للمشروع السياسي الاسلامي فمن الخطأ الكبير ان يظهر الحكام الاسلاميون تراجعا عن مشروعهم الذي اوصلتهم شعوبهم الى الحكم على اساسه والرغبة فيه. هذا لا يعني التخلف او التعصب بل يجب ان يتجسد المشروع في عدد من الامور: اولها اقامة العدل بشكل يجعل المواطنين يشعرون به، ثانيها: ان تكون المساواة واضحة في كافة المعاملات، ثالثها: ان يسود مناخ الحرية وثقافة الاحترام المتبادل بين المواطنين، رابعها: تجريم الفساد خصوصا في المال العام، خامسها: احترام حقوق الانسان وتجريم التعذيب او المعاملة الحاطة بالكرامة الانسانية. بالاضافة لقيم الاسلام الاخرى التي تروج التراحم بين الناس والتعاون والالفة والحب والاخاء والعمل الجاد وإعمار الارض ومنع الاستغلال. الاسلاميون يقفون الآن في فوهة المدفع وهم يتصدون للشأن العام، وبالتالي ففي الوقت الذي يشعرون فيه بضرورة اقامة منظومة روحية واخلاقية واضحة ومتينة، فانهم مطالبون ايضا بتطبيق منظومة حكم سليمة تنافس الانظمة الغربية التي تدعي الديمقراطية وحقوق الانسان.
غير ان تحديات الاسلاميين لا تتوقف هنا. فمهمة الحكم لا تنحصر بادارة البلاد والشعب فحسب، ولا بالتركيز على الجوانب الشخصية لدى الافراد، بل ان الاهتمام بالامة محور اساسي في منظومة الحكم الاسلامي، وكذلك التعاطي مع المجتمع الانساني والتفاعل الايجابي مع المحيط السياسي والاجتماعي، وترويج البعد الانساني لرسالة الاسلام، خصوصا سمة 'الرحمة' التي حصر الاسلام رسالة محمد بن عبدالله بها في قوله 'وما ارسلناك الا رحمة للعالمين'. يضاف الى ذلك ان الشعوب ستراقب اداء الاسلاميين في مجال التحالفات وما اذا كانت تهدف لترويج القيم المذكورة وتعمق روح التحرر والاستقلال ام تكرس التبعية والاستغلال والاستعباد. وسيكون من بين مهمات هؤلاء الاسلاميين تبني مشروع التنمية لدى الشعوب بدعم العلم والتكنولوجيا، اما على الصعيد الوطني او على مستوى الامة مجتمعة. فمثلا ما الصعوبة في اقامة تقارب بين باكستان والجزائر؟ او بين مصر وايران؟ او بين تونس والعراق؟ او بين المغرب وماليزيا؟ مطلوب اعادة ترتيب اولويات شعوب الامة لتحل ظاهرة الانتاج محل الاستهلاك والانفاق غير المحدود على ما لا طائل فيه خصوصا في مجال السلاح والصفقات التي تدعم اقتصادات الغرب ولا تفيد الاقتصادات المحلية. ثمة بعد آخر لا يمكن اغفاله من قبل الحكام الاسلاميين يتمثل بترويج ثقافة حكم القانون وتساوي المواطنين جميعا امامه على اختلاف الانتماءات. فلا يمكن بناء مجتمع حديث ما لم يكن لحكم القانون دوره الاساسي في منظومة الحكم. وثمة سجال يتواصل حول قضايا جوهرية مثل دور المرأة في الحكم والادارة وموقع حقوق الانسان فيها، وحقوق الاقليات واتباع الديانات الاخرى. انها جميعا تحديات لن يكون سهلا على الاسلاميين تجاوزها، بل مطلوب منهم ان يستوعبوها ويعملوا بموجبها. الامر المؤكد ان ظاهرة التداول على السلطة لا يمكن تجاوزها او الغاؤها. فما لم يكن الاسلاميون قادرين على حمل المهمة وادائها بما يلقى استحسان المحكومين، فلن يستطيعوا كسب قلوب الناس ولن يكتسحوا صناديق الانتخابات مستقبلا. مطلوب استيعاب حقيقة التحديات من جهة واجندات اعداء المشروع الاسلامي من جهة اخرى. فهؤلاء يتصيدون الاخطاء ويروجونها ويسعون دائما للنيل من مصداقية الاسلاميين، والمبالغة في رصدل اخطائهم. الحكمة ضالة المؤمن، ومطلوب من الاسلاميين التحلي باليقظة والحذر والعقل والواقعية التي لا تساوم على المبادىء ولا تتخلى عن الثوابت. ان فعلوا ذلك فستنجح تجربتهم في الحكم، والا سيكون مصيرهم شبيها بمن سبقهم من ذوي الايديولوجيات الاخرى، فالسنن الاجتماعية والالهية تنطبق على الجميع ولا تميز بين الناس على اساس الدين او العرق او النوايا.
' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
سعید الشهابی
رمز الخبر 184437