٠ Persons
٣٠ مارس ٢٠١٣ - ١٣:٤٧

باتریک سیل

بلغت الحرب الأهلیة التی اندلعت فی سوریة منذ سنتین منعطفاً خطیراً للغایة. فإما أن یستمر طرفا النزاع فی خوض معرکة الحیاة والموت وإما أن یقررا البحث عن تسویة – غیر متکافئة بالطبع على غرار التسویات کافة – من شأنها وضع حدّ لإراقة الدماء وإنقاذ بلدهما من التقسیم ومن تدمیر کیانه کلاعب أساسی على ساحة الشرق الأوسط. هذا هو الخیار الذی یواجه النظام وأعداءه على حدّ سواء.
ساهمت القوى الخارجیة فی الکارثة الحالیة. فینبغی علیها أن تقرّر بدورها ما إذا کان یجب أن تمضی قدماً على أمل الحصول على مکاسب قد تحسّن موقعها أو على العکس أن تشجّع مختلف الفصائل المتناحرة فی سوریة على تسلیم أسلحتها وعلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
أما العامل المشجّع نسبیاً فی هذا الوضع القاتم فیتمثّل فی إدراک الولایات المتحدّة وروسیا على ما یبدو أنّ أفضل طریقة لمنع التقسیم الکارثی لسوریة – الذی قد یشکّل صیغة لحرب عصابات غیر متناهیة – تکمن بالإشراف معاً على عملیة انتقال سیاسی دیموقراطی. وتقضی الخطوة الأولى الضروریة فی اتجاه تحقیق نتیجة مماثلة بوقف القتال من خلال فرض حظر على الأسلحة على طرفی النزاع. بینما تقوم الخطوة الثانیة على استبعاد جمیع الأشخاص المتشددین الذین یرفضون التسویة وجمع الأشخاص الوطنیین من کل الفئات الذین یرغبون فی إنقاذ بلدهم من إراقة المزید من الدماء ومن الدمار مع بعضهم بعضاً.
إلا أننا لا نزال للأسف بعیدین من بلوغ هذا الحلّ السعید. فلا یمکن بسهولة نسیان أو الصفح عن الضرر البشری والمادی الهائل الذی وقع خلال السنتین الماضیتین. لقد فرّ أکثر من ملیون سوری إلى الدول المجاورة بحثاً عن ملاذ آمن. کما تهجّر ملیون شخص آخر فی الداخل. ولا یمکن إحصاء الکلفة التی تکبّدها هذا البلد. فقد وصلت حصیلة القتلى إلى نحو 70 ألف شخص.
کانت سوریة لاعباً أساسیاً على ساحة الشرق الأوسط خلال العقود الخمسة الماضیة. ولا بدّ من أن یؤدی انهیارها – وهذا ما نشهده بالفعل – إلى تبعات واسعة النطاق. کیف سیؤثر انهیار سوریة فی مستقبل مختلف القوى فی سیاسة الشرق الأوسط؟ وما الذی یحمله المستقبل للاعبین الآخرین الضالعین فی النزاع؟ تمّ جرّ الدول المجاورة کافة مثل ترکیا وإیران والعراق ولبنان وإسرائیل والمملکة العربیة السعودیة وقطر إلى المعرکة بطریقة أو بأخرى. ونحن نمرّ فی فترة غموض إقلیمی کبیر. فمن سیجرؤ على توقّع نتیجته؟
یبدو أنّ "الثوّار" السوریین الذین ثاروا ضد نظام الرئیس بشار الأسد منذ سنتین تأثروا بالتدخّل الغربی الذی أطاح العقید معمّر القذافی فی لیبیا. ولا بدّ من أن المثال اللیبی ضلّلهم لیعتقدوا أنه فی حال ثاروا قد یهرع الغرب إلى مساعدتهم. وشکّل ذلک على الأرجح خطأهم الأکثر فداحة. فهم یتذمرون من نقص الدعم الخارجی "للثورة" ویمارسون الضغوط للحصول على المزید من الدعم. ویتمّ حالیاً تسلیح بعض المحاربین المعارضین السوریین کما أنّهم یتلقون التدریبات من المدربین الغربیین فی الدول المجاورة، لکنّ نطاق هذه التدریبات عاجز عن قلب الطاولة نهائیاً ضد النظام.
فی بدایة النزاع، یبدو أنّ الرئیس بشار الأسد أخطأ حین ظنّ أنّ موقفه الوطنی ومعارضته إسرائیل سیحمیانه من تفجر العصیان الشعبی. ویبدو أنّ خطأه الفادح یکمن فی فشله فی إدراک مکان وجود القوى المتفجرة فی المجتمع السوری. فلو کان یعرف مکانهم بالفعل، فقد فشل فی التحرّک لتنفیسهم.
من هم جنود المشاة فی الثورة السوریة؟ أولاً، إنهم أشخاص عاطلون من العمل وشبه مثقفین وقعوا ضحیة الانفجار السکانی فی سوریة خلال السنوات الأخیرة. حین وضعتُ أول کتاب لی حول سوریة فی الستینات (بعنوان "النضال من أجل سوریة" الصادر عن منشورات جامعة أوکسفورد عام 1965)، کان عدد السوریین یبلغ 4 ملایین نسمة، أما الیوم فهو یبلغ 24 ملیون نسمة. لیست سوریة بلداً ثریاً. ومقارنة بإمارات الخلیج – أو مقارنة بالمملکة العربیة السعودیة أو إیران أو ترکیا – تعدّ سوریة بلداً فقیراً. کما ثمة عدد کبیر من الشبان فی المدن السوریة الیوم عاطلین من العمل.
والأسوأ حالاً هم ضحایا موجة الجفاف فی الریف التی سجّلت رقماً قیاسیاً فی تاریخ سوریة من عام 2006 لغایة عام 2011، ما أجبر مئات الآلاف من الفلاحین على الرحیل عن أرضهم وعلى ذبح حیواناتهم وعلى الانتقال إلى أحزمة الفقر حول المدن. وعام 2009، أشارت الأمم المتحدّة والهیئات الأخرى إلى أنّ أکثر من 800 ألف سوری خسروا مصدر عیشهم نتیجة الجفاف الکبیر. ومن أجل إنقاذ حیاتهم وحیاة أولادهم، فرّوا إلى المدن.
ومن الواضح أنّ الرئیس بشار وحکومته لم یبذلا جهوداً کافیة من أجل مساعدة الفلاحین الذین تضرّروا نتیجة الجفاف أو من أجل إنشاء فرص عمل للأشخاص العاطلین من العمل فی المدن. کان یجب أن تقوم أولویتهما الملحّة على إطلاق برامج أساسیة لمساعدة هاتین الفئتین من الضحایا. وکان بوسع سوریة ضمان المساعدة المالیة من دول الخلیج أو المنظمات الدولیة فی حال طلبتها. بدلاً من ذلک، رکّز النظام على الترویج للسیاحة وعلى إعادة تأهیل المدن القدیمة فی دمشق وحلب وشبکة واسعة من المتاحف وعلى تشجیع استخدام الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعی. وأفادت هذه السیاسات الرائعة بحد ذاتها طبقة بارزة جدیدة وصغیرة إلا أنّها لم تفد الفقراء فی المدن وفی الریف الذین کانوا بحاجة ماسة إلى المساعدة.
والجدیر ذکره أنّ انتباه الرئیس بشار ترکّز على ما یبدو بشکل قلیل على المشاکل الداخلیة وبشکل أکبر على المخاطر والمؤامرات الخارجیة ضد سوریة – وهی عقلیة ورثها عن والده الرئیس الأسبق حافظ الأسد الذی حکم على مدى 30 سنة من عام 1970 إلى عام 2000. ویجب ألا ننسى أنّه بعد حرب عام 1973، ساهمت إزاحة مصر عن الصف العربی – کما خطّط وزیر خارجیة الولایات المتحدّة هنری کیسنجر – فی تعریض سوریة ولبنان لقوة إسرائیل الکاملة. فضلاً عن ذلک، کان اجتیاح إسرائیل للبنان عام 1982 یهدف إلى وضع حدّ للنفوذ السوری ووضع لبنان فی مدار إسرائیل. ورداً على ذلک، عمل حافظ الأسد على تشکیل "محور الممانعة" المؤلف من إیران وسوریة و "حزب الله" الذی نجح جزئیاً فی الحدّ من طموحات إسرائیل الإقلیمیة.
وتوجّب على الرئیس بشار التعامل مع أوضاع لا تقل خطورة عن تلک التی واجهها والده. ولو نجح الغزو الأمیرکی للعراق عام 2003 – کما خطط له المحافظون الجدد الموالون لإسرائیل – لکانت سوریة ستکون الهدف التالی. ومن ثمّ، واجهت سوریة سلسلة من الأزمات الخطیرة تمثّلت فی الاجتیاح الإسرائیلی للبنان عام 2006 وتدمیر منشأة سوریة النوویة عام 2007 والهجوم الذی شنّته إسرائیل على قطاع غزة فی نهایة عام 2008 وبدایة عام 2009.
واعتبرت دمشق هذه الاعتداءات بمثابة أزمات مهدّدة للنظام. ولم یکن مفاجئاً حین بدأت الانتفاضة فی درعا عام 2011 أن یفسّر النظام ما حصل بمؤامرة خارجیة أخرى ضدّه بدلاً من صرخة غضب ویأس من الشعب المتعب. ویبقى الأمل فی أنّه تمّ استخلاص العبر من هذه الأزمات الکثیرة وفی أن یتوحّد السوریون الآن من أجل إنقاذ بلدهم من الانحدار نهو الهاویة.

 

رمز الخبر 184726