٠ Persons
٦ نوفمبر ٢٠١٢ - ١٤:١٣

د. سعید الشهابی

 
 

 

خبرآونلاین-بعد اکثر من ثلاثین عاما من تأسیسه، یواجه مجلس التعاون الخلیجی استحقاقات محلیة واقلیمیة عدیدة، من شأنها ان تساهم فی اعادة رسم خریطة تحالفاته الخارجیة وسیاساته الداخلیة. فمنذ مطلع العام الماضی رکز المجلس فی سیاساته على منع وصول ثورات الربیع العربی الى حدوده، ولکن عجز المجلس عن القضاء على ثورة البحرین ادى الى توسع التحدیات الداخلیة التی تواجهه. فبرغم التدخل العسکری السعودی لقمع تلک الثورة، وتخصیص عشرین ملیار دولار لدعم کل من البحرین وسلطنة عمان، ما یزال التهدید باندلاع ثورات، او على الاقل اضطرابات، داخل دول المجلس احتمالا واردا، بل ان مصادیقه تبلورت مؤخرا بشکل واضح فی دول اربع اخرى هی السعودیة والکویت والامارات وعمان.
والواضح ان هناک قلقا من ان یؤدی ای خطأ فی التعامل مع هذه التطورات الى انفلات امنی یهدد وجود انظمة الحکم فی منطقة هی الاکثر حساسیة فی الشرق الاوسط. ویزید من قلق الدوائر الغربیة من تصاعد الاضطرابات الداخلیة فی دول مجلس التعاون الشعور بغموض المستقبل المنظور فی منطقة الخلیج خصوصا مع تأرجح السباق بین الحرب والتفاوض فی ما یتعلق بالمشروع النووی الایرانی. ویزداد الوضع' غموضا مع ما یبدو من عودة جدیدة لاجواء الحرب الباردة التی خیمت اجواؤها على المنطقة حتى السبعینات. والواضح ان سقوط الاتحاد السوفیاتی لم یقض على المخاوف من تصاعد السباق الدولی من الوصول الى ما کان یسمى 'میاه الخلیج الدافئة'. فشبح روسیا اصبح الآن یحلق فی سماء العلاقات بین روسیا والولایات المتحدة ومنطقة الشرق الاوسط. وادرکت روسیا ان سیاسات العقدین اللذین اعقبا الحرب الباردة اضعفت وجودها الدولی وافقدتها مواقع نفوذ فی الشرق الاوسط. ویمکن تفسیر الموقف الروسی بخصوص المشروع النووی الایرانی ورفضها العمل العسکری ضد نظام بشار الاسد فی سوریة بانه نابع من اعتبارات استراتیجیة مفادها ان روسیا ستخسر المزید من نفوذها اذا سمحت للاستراتیجیة الانکلو امریکیة بالنجاح والتوسع خصوصا فی الشرق الاوسط. ویمکن القول ان سیاسة اوباما باعادة نشر القوات الامریکیة فی منطقة المحیطین الهندی والهادىء ساهمت یشکل مباشر فی تشجیع الصین وروسیا على'اعادة تقویم سیاساتهما الخارجیة، وان تلک السیاسة شجعت الولایات المتحدة لنشر قواتها على حدودهما. فانتشار النفوذ الامریکی فی أسیا الوسطى وسیاسة نشر الدرع الصاروخیة فی بولندا، کل ذلک اقنع الروس اخیرا بانهم اصبحوا محاصرین بسیاسة امریکیة شرسة لا تعرف حدود التوسع ان لم تشعر بان ثمن ذلک سوف یکون باهظا. الخلیجیون هذه المرة بادروا للتلمیح بالورقة الروسیة للضغط على' الولایات المتحدة وبریطانیا، فما ان اندلعت الثورات حتى استخدمت حکومات الخلیج 'الخیار النووی' للمرة' الاولى، وهددت باللجوء الى روسیا ان أصرت واشنطن على مطالبتها باصلاحات تقلص نفوذ العائلات الحاکمة فی هذه الدول. وقد طرأ تعدیل على ذلک التهدید بعد ان تراجعت الولایات المتحدة عن ممارسة الضغط على السعودیة والبحرین بشکل خاص، وسعى الخلیجیون لاستعمال العلاقات مع روسیا لمنعها من التعاون مع ایران، سواء فی المجال التکنولوجیا النوویة ام الدروع الصاروخیة. وقد نجحوا الى حد تعطیل صفقة صواریخ S-300' بین روسیا وایران، وهی مسألة عالقة حتى الآن، الامر الذی دفع الایرانیین باتخاذ قرار قضائی بشأنها.
هذا التوازن القلق فی العلاقات الخارجیة لدول مجلس التعاون لا یعنی انتهاء الشعور بالتهدید، سواء الخارجی ام الداخلی. واذا کان التحالف مع الولایات المتحدة قد یوفر شیئا من الحمایة من الخارج، فان استمرار الحراک الداخلی یؤرق انظمة دول مجلس التعاون بشکل کبیر، خصوصا مع استمرار لهیب الثورات العربیة برغم محاولات تطویعها من قبل قوى الثورة المضادة. وتعکس الاجراءات التی تتخذها هذه الدول حالة من القلق الذی یتعمق مع عجزها عن استیعاب عمق المشاعر الشعبیة بالرغبة فی الاصلاح السیاسی الحقیقی. وترتکب هذه الدول خطأ کبیرا اذا اعتقدت ان قمع ثورة البحرین مثلا سوف یبعد التهدید عن اجوائها. فالواضح ان تلک الثورة، الجدیدة القدیمة، استعصت حتى الآن على محاولات القمع بالقوة المفرطة، وما تزال عشرات التظاهرات تنزل الى الشوارع یومیا، برغم تضافر جهود قوات الامن المحلیة وقوات الجیش السعودی وضباط الامن الامریکیین والبریطانیین الذین استقدموا للمشارکة فی القمع الداخلی لمواجهة الثورة. وکانت خطوات السلطان قابوس التی اتخذها عندما اندلعت الاحتجاجات فی ربیع العام الماضی مشجعة لانها عکست وقتها ادراکا حقیقیا لابعادها ورغبة فی منع تطورها. ولکن اتخاذ اجراءات جدیدة ضد بعض المشارکین فی تلک الاضطرابات من شأنه غرس بذور جدیدة للتوتر، الامر الذی یجعل اندلاعها مجددا امرا لیس محتملا فحسب، بل محتوما، خصوصا مع تلکؤ عجلة الاصلاح والاعتماد على تقییم اجهزة الامن والجیش. وکان الاجدر بالسلطات العمانیة معالجة اسباب التوتر واعتماد سیاسة اصلاحات جدیدة اکثر جدیة، واعادة الثقة للجیل الجدید بوجود آفاق ایجابیة للتطویر السیاسی والشراکة المجتمعیة فی الحکم والادارة. اما اصدار احکام على اشخاص مارسوا حقهم فی التعبیر الناقد لسیاسات الحکم، فهو بمثابة صب الزیت على النار فی اجواء مؤاتیة للاحتراق ونشر اللهب.
اما الدائرة الاخرى للاضطراب الامنی فتتمثل بما حدث فی دولة الامارات العربیة. فقد اعتقل عدد من النشطاء الحقوقیین، وأبعد بعضهم الى خارج البلاد، فی خطوة لا یمکن ان تمر بدون انعکاسات سلبیة تؤسس لمرحلة اضطرابات سیاسیة وامنیة. واذا کانت الاضطرابات فی السابق محصورة بقطاع العمال الاجانب الذین احتجوا على اسالیب معاملتهم، ودعمتهم فی ذلک منظمات محلیة ودولیة، فان الاحتقان السیاسی الناجم عن الاعتقالات الاخیرة قد یتوسع تدریجیا ویستقطب شباب دولة الامارات، ویؤسس لمرحلة نشاط سیاسی غیر مسبوق.
وتجدر الاشارة الى ان الحراک السیاسی المعارض فی المشیخات التی یتکون منها الاتحاد الاماراتی لیس جدیدا. ففی العام 1938 کانت هناک حرکة فی دبی تطالب بدستور دائم للبلاد ومجلس تشریعی، تزامنت مع حرکة مماثلة فی الکویت، وتبعتهما حرکة اخرى فی البحرین. کما ان اهتمام المنظمات الحقوقیة' الدولیة بما یجری فی الامارات تواصل فی العقدین الاخیرین، وشجعه على ذلک وجود عمالة اجنبیة کبیرة تمثل اکثر من 80 بالمائة من سکان الامارات. ولا شک ان تراجع الوضع الاقتصادی فی دبی فی الاعوام الاربعة الاخیرة یوفر اجواء للاحتقان السیاسی والاضطراب الامنی یجدر بالسلطات مراعاته. اما اعتقال ناشطین مثل الحقوقی والقانونی محمد الرکن فلا یساهم فی ابعاد شبح الاحتقان. کما ان الثروة الهائلة المتوفرة لدى السلطات لا تکفی لمنع الاحتقان. خصوصا ان الاتحاد یواجه بین الحین والآخر استحقاقات مسألة الاستخلاف فی مشیخاته، وآخرها ما حدث العام الماضی بعد رحیل حاکم امارة رأس الخیمة الذی استبدل فی السنوات الاخیرة ابنه الاکبر فی ولایة العهد بنجله الاصغر، الامر الذی کاد یؤدی الى زعزعة الامن فی تلک المشیخة' الصغیرة.
وشهدت الکویت اضطرابا سیاسیا انطلق من مجلس الامة، وادخل البلاد فی حالة من الجمود السیاسی غیر مسبوقة. فبعد قرار حل مجلس الامة من قبل الامیر، الشیخ جابر الاحمد الصباح، اجریت انتخابات جدیدة سرعان ما نجم عنها توتر فی العلاقات بین المجلس والحکومة. واصدرت المحکمة الدستوریة قرارا بعدم قانونیة قرار الحل، وقامت باستدعاء المجلس السابق الذی کان قرار حله ناجما عن توتر العلاقات بین الحکومة والمجلس. أیا کان الامر، فان الکویت، هی الاخرى، مرشحة للمزید من الاحتقان السیاسی خصوصا مع وجود تداخل بین القوى والاتجاهات المحلیة والتدخلات الخارجیة. کما ان تنامی التیار السلفی المدعوم من السعودیة یمثل عامل اضطراب سیاسی ومجتمعی اذا لم یخضع للرقابة والسعی للحد من نفوذه، فالکویت محاطة بدول ثلاث کبرى: السعودیة وایران والعراق، ولکل منها تأثیر على الوضع الداخلی.
ولا شک ان تعدد قرارات حل مجلس الامة ظاهرة مقلقة لانها تسجل حالة اضطراب صعبة وتباین فی اولویات الفرقاء وغیاب ارضیة التوافق السیاسی خصوصا فی اجواء الحراک العربی الاوسع من اجل الدیمقراطیة والاصلاح. واذا کانت التجربة الکویتیة حتى وقت قریب تطرح من قبل الغربیین کمثال على' الاصلاح السیاسی الممکن فی دول مجلس التعاون بدون الحاجة لتغییرات جوهریة فی انظمة الحکم المؤسسة على 'الدولة الحاکمة' فقد تلاشى بریق تلک التجربة الآن وتجاوزت مطالب بعض قوى المعارضة الحد الادنى من التغییر الذی ربما کان کافیا لاحتواء الاوضاع فی السابق، ولکنه لم یعد کذلک الآن. ان التجربة الکویتیة، برغم تطورها النسبی، لم تتغیر کثیرا وبالتالی لم تعد صالحة کمثال یحتذى من قبل دول المجلس الاخرى، بل' تحتاج لهزة داخلیة کبیرة توقظها على واقعها وتدفعها نحو التطور.
اما السعودیة فستظل اوضاعها موضوعا للرهان بین الفرقاء. فالخیارات امام نظام الحکم السعودی محدودة: فاما القیام باصلاح محدود لا یلبی طموح المطالبین بالتغییر، او تکثیف القمع الداخلی بوتیرة اکبر، بما فی ذلک من خطر على التجربة وتهدید لمشروع الهیمنة السعودی. ولیس خافیا على احد ان السعودیة تحتل موقعا متقدما فی العمل السیاسی والدبلوماسی الخلیجی، وبالتالی لا یمکن تجاوزها بسهولة.
ویقتضی الامر التعاطی مع الظاهرة السعودیة فی الاصلاح السیاسی بجدیة لاعادة تقییم تلک التجربة وتحدید ما اذا کانت تلک التجربة بحاجة للمزید من التطویر. واذا کان الحراک الجماهیری فی الجزیرة العربیة محصورا حتى الآن بالمنطقة الشرقیة لاعتبارات سیاسیة وایدیولوجیة ودینیة، فان توسع دائرة الحراک یعکس عمق الازمة ویکشف مدى عجز العائلة الحاکمة ممثلة فی 'الحرس القدیم' عن مواکبة التطورات الدولیة فی الحکم والادارة، ومدى تجاهل العالم لمقولة 'الخصوصیة' الثقافیة لتبریر القمع والاضطهاد. کما ان وجود اکثر من عشرة آلاف سجین سیاسی یضغط على الاستقرار الداخلی ویشجع على الحراک المعارض. وجاءت حوادث المنطقة الشرقیة مؤخرا لتسلط الاضواء مجددا على المملکة. فقتل ثلاثة متظاهرین بالرصاص الحی خطأ على احسن تقدیر، لا یمکن تبریره. کما ان اطلاق النار على رمز دینی وسیاسی مثل الشیخ نمر النمر، فینم عن منهج فی القمع والتعاطی مع الحرکات المطلبیة بعقلیة لا تفید فی التوصل الى مبادرات خارجیة لاصلاح العلاقات بین الحکام والمحکومین. وبین هذا وذاک تتعمق ازمة الحکم السعودی یومیا، خصوصا مع استمرار نظام الاستخلاف عاجزا عن منع توتر العلاقات بین رموز الحکم. لقد اصبح واضحا ان الوضع السعودی غیر مستقر تماما، وان ثمة مخاضا یعتمل فی الخفاء، وان الدبلوماسیة السعودیة غیر قادرة على التعاطی مع التطورات بنمط فاعل یحتوی الآثار المدمرة لذلک المخاض الذی قد یتمخض عنه انفجار الاوضاع بشکل یؤدی الى الاطاحة بالنظام السعودی.
وهکذا یبدو مجلس التعاون متجها نحو مستقبل غیر مستقر لا یبعث على الطمأنینة لدى القوى الحلیفة له. لقد کان تأسیسه نتیجة مباشرة واجراء فوریا لمواجهة استحقاقات الثورة الاسلامیة فی ایران من اجل منع وصول ریاحها الى السواحل الجنوبیة للخلیج. وبعد اکثر من ثلاثة عقود یتکرر السیناریو ویواجه مجلس التعاون مجددا تحدیات الثورة ومطالب التغییر. هذه المرة تأتی الریاح من الجانب العربی الذی یصعب صده او تغییر اتجاهه. الامر الذی یمکن ان یقف حائلا دون مشروع الثورة المضادة الذی تتزعمه السعودیة وعی الشعوب العربیة لوسائل اجهاض الثورات، وفی مقدمتها السلاح الطائفی، وهو سلاح غذته اموال النفط الهائلة بدون حدود، واصبح سیفا مصلتا على وحدة الامة، حتى اصبحت اکثر انشغالا بالقضایا الهامشیة التافهة. فعندما وقعت حادثة قتل سبعة اسرائیلیین فی بلغاریا سعت وسائل الاعلام العربیة لتهمیشها وکأن شیئا لم یکن، وتجاوزت فتح ملفات الاحتلال الاسرائیلی واثارتها جماهیریا. فکأن قضیة فلسطین فی اجواء هیمنة قوى الثورة المضادة قد اقصیت عن الواجهة لکی لا تثیر حماس الشعوب العربیة او تضغط على اجندات الاحتلال وداعمیه. الامر المؤکد ان دول مجلس التعاون تواجه الیوم استحقاقات عقود الجمود السیاسی ورفض الاصلاح الدیمقراطی والاستمرار فی انتهاک حقوق الانسان. وما الاعتقالات والتنکیل والنفی الا مؤشر لعدم استیعاب هذه الحکومات حقائق الواقع. لقد حان الوقت لها ان تستوعب معانی التغییر والاصلاح وقوة ارادة الشعوب، والا فستواجه اوضاعا لا تختلف کثیرا عن اوضاع البحرین التی وصلت نقطة اللاعودة، واصبح التغییر فیها محتوما وان تأخر.
 
' کاتب وصحافی بحرینی یقیم فی لندن

رمز الخبر 183612