٠ Persons
٤ فبراير ٢٠١٣ - ١٤:٣٢

دکتر بشیر موسى نافع

 
 
 
خبرأونلاین-تبدو مصر وکأنها تنحدر إلى هوة أزمة جدیدة. ولکن مصر فی الحقیقة لم تخرج من الأزمة السابقة. هذه حلقات متصلة من أزمة واحدة، تبدو بلا نهایة، تصبح أکثر أو أقل حدة، طبقاً لما توفره ظروف الداخل من فرصة أو تدفع إلیه ضغوط الخارج. بین معارضة لا تقبل بأقل من إطاحة الرئیس والسیطرة على الحکم، بدون أن یکون لدیها من الدعم الشعبی ما یؤهلها لمثل هذه القفزة، وقوى عربیة تبذل کل جهد ممکن لإغراق مصر فی حالة من الفوضى والشلل، وأجهزة دولة بالغة الاضطراب، یعیش المصریون أیام قلق أخرى.
یتعلق إحدى أوجه احتدام الأزمة برد فعل مدینة بورسعید على الأحکام التی أصدرتها محکمة أحداث الاستاد الریاضی فی المدینة فی العام الماضی. کانت أحداث العام الماضی وحشیة ودمویة، وجاءت الأحکام قاسیة، تعکس اقتناع قضاة المحکمة بحجم الجرم وأدلة الإدانة.
وبالرغم من أن رد فعل ما کان متوقعاً، سواء من أنصار ضحایا مجزرة العام الماضی أو أنصار المتهمین، فإن مناخ التأزم السیاسی المتفاقم حول شوارع مدینة بورسعید إلى ساحة قتال، سیما بعد أن حاولت مجموعات مسلحة اقتحام سجن المدینة والإفراج عن السجناء. لیس من تقالید المصریین الاحتجاج الدموی على أحکام القضایا الجنائیة؛ وقضیة استاد بورسعید جنائیة بامتیاز. ولکن مناخ التوتر السیاسی، والتشجیع على العنف، سواء فی وسائل الإعلام المعارضة، التی هی کل وسائل الإعلام تقریباً، ولغة التحریض الانقلابیة التی تستخدمها قوى المعارضة، والغطاء الذی وفرته مظاهرات المعارضة فی ذکرى ثورة 25 کانون ثانی/ینایر لعصابات من الخارجین على القانون وجماعات فوضویة، جعل أحکام القضاء مناسبة أخرى لتصعید العنف.
ما بین 22 تشرین ثانی/نوفمبر، یوم صدور الإعلان الدستوری المکمل، و22 کانون أول/دیسمبر، یوم اکتمال الاستفتاء الشعبی على مشروع الدستور الجدید، تعهدت المعارضة المصریة محاولتها الأولى، والأخطر لإطاحة الرئیس. رفض قادة المعارضة، أو أغلبهم، دعوات الرئیس للحوار، ورفعوا شعارات تشکک فی شرعیته. نقلت حرکة الاحتجاج عندها إلى محیط قصر العروبة، حیث مکتب الرئیس، وجرت محاولة سافرة لاقتحام القصر. کان هدف الرئیس مرسی من الإعلان الدستوری، المثیر للجدل بلا شک، الإسراع بالمرحة الانتقالیة وتحصین الجمعیة التأسیسیة من مخططات سیاسیة ذات طابع قضائی لتعطیل عملها. أما هدف المعارضة، فکان فتح المرحلة الانتقالیة على المجهول، منع وضع مسودة الدستور، وانتظار الفرصة السانحة لإطاحة الرئیس. ولکن المعارضة أخفقت فی تحقیق هدفها، بینما نجح الرئیس فی حمایة الجمعیة التأسیسیة من الحل إلى أن طرح مشروع الدستور على الاستفتاء. وبالرغم من الحملة الإعلامیة الشعواء على مشروع الدستور، صوت المصریون بأغلبیة کبیرة لإقراره. ولکن الأمور لم تنته هنا. کان یمکن للبلاد أن تبدأ رحلة الاستقرار، وأن تلتفت إلى شؤونها المالیة والاقتصادیة الملحة، وإلى جدول أعمال مزدحم فی حقل السیاسة الخارجیة. ولکن لا المعارضة، ولا الدول العربیة التی جعلت نفسها معنیة بالوضع المصری الداخلی، ترغب فی أعطاء البلاد فرصة؛ وهو ما أدى، عشیة ذکرى ثورة کانون ثانی/ینایر، إلى تشکل خارطة قوى مولدة للتأزم:
تدرک المعارضة ضعف وهشاشة قواعدها الشعبیة. ولم یحدث أن استدعی الشعب، منذ إطاحة النظام السابق، للإدلاء برأیه، إلا وعجزت القوى التی تسمى أحیاناً باللیبرالیة عن تحقیق التفاف شعبی مقنع حول مرشحیها أو مواقفها. فشل المعارضة فی إسقاط الرئیس أو إقناع الشعب برفض مشروع الدستور، یدفع المعارضة، أکثر وأکثر، نحو العنف واستخدام وسائل غیر قانونیة لتوکید وجودها. وهذا ما حدث فی تظاهرات ذکرى الثورة. لم تستطع قوى المعارضة مجتمعة، (ثلاثة عشر حزباً منضویة تحت مظلة ما یعرف بجیهة الإنقاذ الوطنی) حشد أکثر من مائتی ألف مؤید فی کافة المدن التی شهدت نشاطات احتجاجیة، بما فی ذلک میدان التحریر، أیقونة الثورة فی قلب العاصمة المصریة. ولکن ما حدث فی القاهرة أن تحولت المظاهرات خلال ساعات قلیلة إلى هجمات على وزارة الداخلیة ومحاولة لاقتحام مجلس الشورى، وفی مدن أخرى إلى هجمات مشابهة على مقار حکومیة محلیة، وسجون، وأملاک خاصة. کان یمکن للمعارضة، التی رفع قادتها شعارات إسقاط الدستور فی الشارع (هکذا بکل دیمقراطیة)، التنصل من وإدانة أحداث العنف التی تسترت بمظاهراتها. ولکنها لم تستطع، تماماً کما تسلحت بالصمت تجاه أحداث العنف البالغة التی شهدتها أزمة الإعلان الدستوری فی تشرین ثانی/نوفمبر الماضی. وبدا أن العنف بات أداة المعارضة المتبقیة لإفقاد النظام الجدید توازنه.
بید أن خارطة التأزم لا تضم قادة معارضة طموحین ومحبطین وحسب. ثمة عدد من الدول العربیة والإقلیمیة التی تشارک المعارضة المصریة موقفها من صعود القوى الإسلامیة السیاسیة للحکم، فی مصر وفی دول عربیة أخرى. ینبع قلق هذه الدول من وجود د. محمد مرسی على مقعد الرئاسة وتزاید حظوظ التیار الإسلامی المصری فی الحکم من عدد من المصادر: هناک، أولاً، قلق دولة إسلامیة إقلیمیة من موقف الرئاسة المصریة القاطع من الأزمة السوریة، واتجاه قاهرة ما بعد الثورة إلى التحالف مع ترکیا العدالة والتنمیة. وهناک، ثانیاً، قلق دول عربیة من أن یکون الصعود الإسلامی السیاسی فی مصر مؤشراً لاتساع نفوذ التیارات الإسلامیة السیاسیة، سیما الإخوان، فی المجال العربی ککل، وتغذیة التیارات الإسلامیة السیاسیة لقوى الثورة والتغییر فی دول المجال العربی. ولأن واشنطن بدت وکأنها غیر قادرة على التأثیر فی مسار الأوضاع المصریة، یفقد حلفاء الولایات المتحدة من العرب ثقتهم فی الحلیف الأمیرکی والحصانة التی یوفرها التحالف من الثورة والتغییر. وهناک، ثالثاً، ما یعنیه استقرار الأوضاع المصریة لدور مصر العربی والإقلیمی، سیما أن مرسی لم یخف، حتى قبل تولیه الرئاسة، عزمه إعادة الاعتبار لدور مصر الخارجی. اعتاد بعض من العرب خلال العقدین أو الثلاثة الماضیة غیاب الدور المصری النشط والقیادی، واعتاد هذا البعض تضخم أدواره ونفوذه على حساب الغیاب المصری، وتثیر عودة الدور المصری، بقیادة إسلامیة، مخاوف لا یمکن إخفاؤها. الأفضل، لهذه الدوائر العربیة، أن تنشغل مصر بنفسها لأطول فترة ممکنة.
القوة الثالثة فی هذه الخارطة هی أجهزة الدولة المصریة، التی یفترض بها أن تحمی الشرعیة وأن تضع حداً لحالة الفوضى وفقدان الأمن التی تشیعها فئة قلیلة من الشبیحة المحترفین والشبیحة السیاسیین. ولکن المشکلة أن الدولة المصریة، التی لم تمس إلا قلیلاً منذ إطاحة نظام مبارک، لیست دولة الثورة ولا تدین بالولاء للرئیس ولا لأی من قوى الثورة والتغییر. هذه دولة قائمة ومستمرة منذ أکثر من قرنین، وقد تشکلت رؤیتها لنفسها ولعلاقتها بالشعب المصری على أساس أن التیار الإسلامی جسم غریب ومعاد.
ولکن هذا لا یعنی أن الدولة تتآمر على الرئیس وتقف إلى صف المنادین بإسقاطه؛ إذ أن سلطة الشرعیة لیست شأناً هیناً أو یمکن تجاهله. الدولة فی الحقیقة تستجیب لأوامر الرئیس بتثاقل بالغ، وتعمل وکأنها تنتظر نتیجة الصراع، ولن تنحاز للرئیس ومعسکر المؤیدین له بصورة قاطعة إلا بعد أن ترى بوضوح أن الرئیس حسم الصراع نهائیاً لصالحه.
أما القوة الرابعة، فتتمثل فی التیار الإسلامی، والإخوان المسلمین بصورة خاصة. تتمتع القوى الإسلامیة بقاعدة شعبیة واسعة، تمتد من شمال الجمهوریة إلى جنوبها، ولکنها تفتقد إلى نفوذ حقیقی وملموس فی جسم الدولة المصریة. وتحاول قوى التیار الإسلامی منذ اندلاع الأزمة تجنب الشارع، والابتعاد عن أیة مواطن للصدام، سواء مع مؤیدی قوى المعارضة أو مع عصابات العنف والفوضى التی یوفر لها موقف المعارضة الغطاء. ولکن أحداً لا یعرف ما إن کان ضبط النفس هذا سیستمر طویلاً، أو ما إن کان الإسلامیون سیستمرون فی دعمهم لمقاربة الرئیس للأزمة، القائمة على الدعوة للحوار واللجوء لأجهزة الدولة لمعالجة حالة فقدان الأمن وانتشار العنف.
تعکس الإجراءات التی اتخذها مرسی فی محافظات قناة السویس الثلاث، من الإعلان المؤقت لحالة الطوارىء وحظر التجوال المسائی ونشر قوات الجیش، المزاج العام للشعب، الذی أراد من الرئیس موقفاً حازماً لاستعادة الأمن والنظام والاستقرار. ولکن انتقادات وجهت للرئیس تطالبه بموقف لا یقل حزماً فی القاهرة، وفی وسط المدینة على وجه الخصوص. ولیس من المؤکد، حتى بعد انتشار وحدات عسکریة، أن الدولة ستستطیع التحکم فی الموقف بمدن القناة. وما لم ترجع السیاسة إلى نمطها العادی فی نظام دیمقراطی، تعددی، فستظل العاصمة المصریة رهینة قوى المعارضة وسعیها الحثیث لإسقاط الرئیس. وربما یجدر بحفنة السیاسیین الطموحین فی قیادة المعارضة أن تدرک إن إطاحة رئیس منتخب وشرعی یعنی أن البلاد لن تستقر لعقود طویلة قادمة، وأن رئیساً لن یستطیع البقاء فی منصبه لشهور، أو حتى لأسابیع، بعد ذلک. ولکن أحداً لم یعد یرى المسألة بأی درجة من العقلانیة. کان بیان المعارضة الصادر فی ساعة مبکرة من صباح 26 کانون ثانی/ینایر أقرب إلى الدعوة الانقلابیة منه إلى التدافع السیاسی العادی بین حکم ومعارضة. ولم یلبث النفس الانقلابی أن عاد من جدید فی بیان قیادة المعارضة، 28 کانون ثانی/ینایر، الرافض لدعوة الحوار الوطنی التی أعلنها الرئیس. فأین المخرج، إذن؟
لیس هناک نظام دیمقراطی ینهض على أرضیة هشة من الانقسام الاستقطابی والصراع المحتدم على السلطة. یشترط النظام الدیمقراطی توافقاً مسبقاً على أسس الدولة وإجماعاً على هویة الأمة ومصالحها الکبرى. ومصر لم تصل بعد، لا إلى التوافق على أسس الدولة، ولا إلى الإجماع على هویة الأمة ومصالحها؛ بغض النظر عن حجم المعارضة ووزنها الشعبی. ومع تداعی مقدرات البلاد المالیة والاقتصادیة وتضاؤل الأمل فی وصول حالة الأزمة المستدیمة إلى نهایتها، باتت مصر فی حاجة ملحة للحسم، بالحوار أو بوسائل أخرى.

 (کاتب وباحث عربی فی التاریخ الحدیث )
 

رمز الخبر 184339