دون الباحث والخبیر بشؤون منطقة غرب آسیا السید رمضان بورسا تقریراً لوکالة تسنیم حول واقع العلاقات العراقیة الترکیة وإمکانیة تمثیل الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة دور الوسیط بین البلدین لتلطیف الأجواء المتوترة بین البلدین ولا سیما بعد زیارة وزیر الخارجیة الترکی العاصمة طهران.
ویمکن تلخیص أهم محاور هذا التقریر فیما یلی:
- الخلفیة التأریخیة للعلاقات الترکیة العراقیة
هناک علاقات تأریخیة بین العراق وترکیا لا یمکن لأحد تجاهلها بتاتاً، ولکنها شهدت توتراً فی الآونة الأخیرة فبعد الاحتلال الأمریکی للأراضی العراقیة بعد سقوط نظام الدکتاتور صدام حسین شهد هذا البلد مشاکل أمنیة محتدمة وکان الموقف الرسمی طوال هذه الفترة یعکس وجهات نظر حکومیة تدل فی ظاهرها على ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضی العراقیة، وقد لعبت أنقرة دوراً هاماً فی استقرار العراق سواء قبل الاحتلال وبعده، وهذا ما ثبت بشکل جلی فی مؤتمر بلدان جوار العراق الذی عقد فی عام 2008 م بحیث تطورت العلاقات الثنائیة بین البلدین وتم تشکیل لجنة تعاون استراتیجی فی العاشر من شهر تموز / جولای فی نفس ذلک العام وقد وقع علیه مسؤولو البلدین فی العاصمة العراقیة بغداد.
أول اجتماع رسمی لهذه اللجنة المشترکة عقد فی الخامس عشر من شهر تشرین الأول / نوفمبر عام 2009 م فی بغداد والاجتماع الثانی عقد فی الرابع والعشرین والخامس والعشرین من شهر أیلول / دیسمبر عام 2014 م فی أنقرة وأکد المجتمعون فی البیان الختامی على أن العراق یمر بأیام عصیبة والحکومة الترکیة تقف إلى جانبه فی هذه المحنة، کما تم التوقیع فی هذا الاجتماع على بروتوکول تعاون دبلوماسی بین وزارتی الخارجیة فی البلدین.
وأما من الناحیة الاقتصادیة فقد بلغ حجم التبادل التجاری بین بغداد وأنقرة خلال العام 2015 م أکثر من ثمانیة ملیارات دولار ونصف الملیار مما یعنی أن العراق ثالث شریک اقتصادی لترکیا.
وفی خضم هذه الأوضاع الاقتصادیة المنتعشة فی تأریخ العلاقات بین البلدین إبان حکومة رئیس الوزراء العراق السید نوری المالکی اندلعت أزمة سیاسیة على أعتاب الانتخابات المصیریة التی عارضتها بعض الأحزاب التی تدعی أنها تمثل أهل السنة، لذلک تدخلت ترکیا کوسیط وکان له دور بارز فی مشارکة أهل السنة بهذه الانتخابات؛ وبعد مجریات الأحداث دعمت حکومة أنقرة ترشیح السید حیدر العبادی مقابل السید نوری المالکی ومن ثم شهدت العلاقات تحسناً ملحوظاً.
- الأزمة السیاسیة الشائکة بین بغداد وأنقرة
أول أزمة سیاسیة جادة شهدتها العلاقات الترکیة العراقیة بعد الاحتلال الأمریکی تمثلت فی ملف مدینة بعشیقة العراقیة حینما أعلنت أنقرة بأنها سترسل قوات إضافیة فی معسکرها بهذه المدینة، وثانی أزمة معقدة حدثت فی باکورة انطلاق عملیات تحریر مدینة الموصل من إرهابیی داعش، حیث أعلنت حکومة رجب طیب أردوغان بأنها ستشارک فی هذه العملیات لکن حکومة حیدر العبادی رفضت ذلک معتبرة تواجد القوات الترکیة فی بعشیقة نقضاً لسیادة العراق وطالبت الحکومة الترکیة بسحب قواتها فوراً، إلا أن الرئیس الترکی کانت له ردة فعل شدیدة مدعیاً أن رئیس الوزراء العراقی قد أهانه لذلک لم یکترث بطلبه بزعم أنه ذو مقام أعلا منه ولا یتلقى أوامره منه لدرجة أنه قال سینفذ ما یرید رغم جمیع الاعتراضات التی اجتاحت الشارع السیاسی العراقی.
موقف أردوغان هذا أسفر عن حدوث أزمة شائکة بین العراق وترکیا لدرجة صدور تهدیدات متبادلة فبغداد اعتبرت تواجد القوات الترکیة على أراضیها تهدیداً لأمنها الداخلی ونقضاً لسیادتها وهذا الأمر ألقى بظلاله على وسائل الإعلام الترکیة أیضاً بحیث انقسمت إلى فئتین إحداهما مؤیدة والأخرى معارضة.
فی الفترة التی کانت حقیبة وزارة الخارجیة بید أحمد داوود أوغلو الذی أصبح رئیس وزراء فیما بعد، تبنت الحکومة الترکیة سیاسة عدائیة تجاه العراق لدرجة أن الحکومة طلبت من وسائل الإعلام بالحذو حذوها والتهجم على بغداد قدر المستطاع فانصاع بعضها لذلک فیما بادر بعض المعنیین بالشأن الإعلامی إلى التذکیر بالعلاقات التأریخیة بین البلدین وطالبوا بوضع حلول دبلوماسیة لحلحلة المشاکل العالقة بین البلدین.
رئیس حزب السعادة آنذاک السید مصطفى کامالاک صرح فی هذا الصدد قائلاً: الأمن الترکی مرهون بوحدة الأراضی السوریة، وأما الأزمة التی حدثت بین ترکیا والعراق بسبب معسکر بعشیقة ینبغی أن لا تکون ذریعة لإیجاد تفرقة واختلاف فی العالم الإسلامی، لذا لا بد من توحید الکلمة بین البلدین وهذا الأمر یعد ضرورة ماسة للعالم الإسلامی بأسره.
- مقترح رجب طیب أردوغان فی مشارکة القوات الترکیة بعملیات تحریر الموصل
الحکومة الترکیة کانت تصر بشدة على المشارکة فی عملیات تحریر الموصل بحیث کانت تطرح الموضوع فی کل فرصة تتاح لها داخلیاً ودولیاً، حیث کانت تخطط للتواجد عسکریاً فی أرض المعرکة بالتنسیق مع رئیس اقلیم کردستان العراق مسعود بارزانی، وقد أکد اردوغان فی کلمة له على أن ترکیا ملتزمة بالتواجد العسکری فی الحرب ضد داعش فی محافظة نینوى وقال: ترکیا سوف تشارک فی عملیة تحریر الموصل ضمن قوات التحالف الدولی، وإذا ما رفضت هذه القوات مشارکتنا فسوف نطبق الخطة " ب " ولو أن هذه الخطة لم تحقق أهدافنا فسوف نلجأ إلى الخطة " ج ".
تجدر الإشارة هنا إلى أن الخطة " ب " التی لمح لها الرئیس الترکی فی کلمته تعنی دعوة مسعود البارزانی للقوات الترکیة فی التواجد على الأراضی العراقیة، حیث صرح فی بادئ عملیات تحریر الموصل بأنه یروم التوسط بین بغداد وأنقرة لحلحلة القضایا العالقة بین البلدین، وقال إن الحکومة الترکیة ترید المشارکة فی هذه العملیات وعلیها أن تستشیر بغداد فی ذلک. هذا الکلام فی واقع الحال دل بوضوح على فشل الخطتین الأولى والثانیة من الخطط الثلاثة التی أشار إلیها الرئیس الترکی رجب طیب أردوغان، ولم تبق إلا الخطة الثالثة " ج ".
بعد تصریحات مسعود البارزانی بادرت وزارة الخارجیة الترکیة إلى إصدار بیان أکدت فیه على أن أنقرة أرسلت وفداً دبلوماسیا إلى بغداد للتداول مع الحکومة العراقیة حول مشارکة القوات الترکیة فی عملیات تحریر الموصل برئاسة أمید یالتشین مساعد وزیر الخارجیة.
وبعد عودة هذا الوفد إلى أنقرة أعلن وزیر الخارجیة مولود تشاووش أوغلو بأن وفداً عراقیاً سیزور ترکیا قریباً، ولکن مر شهر کامل على هذا التصریح ولم یتم إرسال أی وفد إلى أنقرة!
- الوساطة الإیرانیة المحتملة بین بغداد وأنقرة
الأزمة الترکیة العراقیة ما زالت على حالها إلى یومنا هذا والعلاقات بین البلدین لیست على ما یرام، وبما أن الجمهوریة الإسلامیة تربطها علاقات دبلوماسیة واقتصادیة قویة مع البلدین فهی قادرة على لعب دور الوسیط لحلحلة الخلافات، والسید علی أکبر ولایتی مستشار قائد الثورة الإسلامیة فی الشؤون الدولیة صرح قبل فترة بأن طهران مستعدة للتوسط بین العراق وترکیا لإعادة المیاه إلى مجاریها، وهذا التصریح کان له تأثیر فاعل فی مبادرات الجمهوریة الإسلامیة على هذا الصعید.
طهران وأنقرة تربطهما علاقات اقتصادیة ودبلوماسیة حسنة، وهناک تعاون جید على صعید العدید من الملفات الدولیة، کما أن حجم التبادل التجاری بین البلدین بلغ 15 ملیار دولار فی حین أن الجانبین یرومان الرقی بواقع هذا التبادل إلى مستوى 30 ملیار دولار، لذا فالجمهوریة الإسلامیة تمتلک المؤهلات اللازمة للعب دور الوسیط بین بغداد وأنقرة لتلطیف الأجواء، ناهیک عن أن هذا التعاون من شأنه وضع حلول للعدید من الأزمات الأخرى التی تعصف بالمنطقة.
ورغم أن العلاقات بین طهران وأنقرة شهدت فتوراً نسبیاً إثر الأزمة السوریة، ولکن بعد الانقلاب العسکری الفاشل فی الخامس عشر من شهر تموز / جولای من العام الجاری أعلنت طهران دعمها للحکومة والشعب فی ترکیا خلافاً لبعض الحکومات الغربیة على رأسها الولایات المتحدة الأمریکیة التی التزمت جانب الصمت إزاء ما حدث، کما أن وزیر الخارجیة الدکتور محمد جواد ظریف زار ترکیا بعد ذلک وبادله الزیارة نظیره مولود تشاووش أوغلو لتشهد العلاقات تحسناً ملحوظاً.
مقترح وساطة طهران بین بغداد وأنقرة واجه اعتراضات من قبل بعض التیارات والحرکات الترکیة المناهضة للجمهوریة الإسلامیة، ولکن رغم ذلک فالسید علی أکبر ولایتی بعد أن صرح بهذا المقترح لوسائل الإعلام أعلنت أنقرة عن ترحیبها وأعرب وزیر خارجیتها عن شکره لذلک.
وأما بعض الشخصیات والأطراف المناهضة لسیاسة الجمهوریة الإسلامیة من أمثال أثیل النجیفی وحلف شمال الأطلسی " الناتو " والاتحاد الأوروبی والولایات المتحدة الأمریکیة وبعض التیارات الداخلیة الترکیة، فهم یحاولون السیر على خلاف التیار المعتدل ویعملون على وضع عقبات لحلحلة الأزمة العراقیة الترکیة، لذلک یحرضون الجانب الترکی على عدم الانصیاع وراء مقترحات طهران وبالتالی فإنهم یتسببون بأزمات لا مسوغ لها ومشاکل محتدمة تعصف بالشارع الترکی.
السید حسین أمیر عبد اللهیان مساعد رئیس مجلس الشورى الإسلامی الدکتور علی لاریجانی ومستشاره فی الشؤون الدولیة، صرح فی الثلاثین من شهر تشرین الأول / أکتوبر الماضی بأن الحکومة الترکیة قد غیرت سیاستها فی سوریا وبعض ملفات المنطقة مؤکداً على دعم طهران لهذه التوجهات.
والحقیقة أننا لو تتبعنا المواقف الترکیة لوجدنا أنقرة بعد الانقلاب العسکری الفاشل الذی حدث فی الخامس عشر من شهر تموز / جولای من العام الجاری قد غیرت من مواقفها السیاسیة الخارجیة ولا سیما قرارها فی التعاون مع الجمهوریة الإسلامیة وروسیا على صعید الأزمة التی تعانی منها سوریا والعراق، وبالفعل فقد أجرى الرئیس رجب طیب أردوغان مع السید حسن روحانی اتصالاً هاتفیاً أکد فیه على هذا التوجه الجدید فی السیاسة الخارجیة الترکیة، حیث قال: لقد توصلنا إلى قرار هام فحواه أن أزمات المنطقة لا یمکن حلها إلا عن طریق التعاون مع روسیا والجمهوریة الإسلامیة، وهذه الحاجة الماسة تتجلى الیوم أکثر من أی وقت مضى.
وقد حدث تقارب مشهود بین البلدین لدرجة أن بعض المؤسسات الصهیونیة لم تکتم تخوفها من ذلک وصرحت بشکل علنی بأنها مستاءة من ذلک ولا ترغب مطلقاً بحدوث أی تقارب بین طهران وأنقرة، ومن جملة أن موقع " Debka File " التحلیلی نشر تقریراً حول الموضوع جاء فی جانب منه: یبدو أن ترکیا قد رجحت العمل تحت مظلة التحالف الشیعی الروسی على التحالف السنی المناهض لإیران، فالتوجهات الأخیرة للرئیس الترکی رجب طیب أردوغان توحی بأنه فی صدد إیجاد تحالف جدید فی الشرق الأوسط تنضوی فیه کل من ترکیا وروسیا وإیران والعراق، ولیس من المستبعد أن سیضم مستقبلاً سوریا وحزب الله، إذ إن هذا التحالف المتوقع قد یغیر واقع العلاقات بین دمشق وأنقرة بشکل جذری رغم أن تحسن العلاقات الإسرائیلیة الترکیة فی الآونة الأخیرة أسفر عن إیجاد تعاون عسکری واستخباری بین واشنطن وأنقرة، کما أدى إلى إیجاد ثقة متبادلة بین تل أبیب وأنقرة الأمر الذی کان متوقعاً بأن یحفز ترکیا على الانضمام إلى التحالف السنی المناهض لإیران والذی یتألف من السعودیة والإمارات العربیة المتحدة ومصر، ولکن ما یدعو للأسف هو اللقاء الذی حصل بین أردوغان وبوتین حیث یعتبر تهدیداً للمخططات الأمریکیة الإسرائیلیة التی یتم تنفیذها بالتعاون مع بعض الحکومات العربیة الصدیقة لإسرائیل.
هذا التحلیل الصهیونی لواقع الأحداث ینم عن عمق القلق الذی ینتاب التیار المناهض للاستقرار فی المنطقة وخشیته من فشل الریاض فی تنفیذ المخططات الإسرائیلیة الأمریکیة فی سوریا والعراق فیما لو تخلت ترکیا عن هذه القافلة المعادیة للشعبین العراقی والسوری.
ولا شک فی أن وساطة الجمهوریة الإسلامیة بین العراق وترکیا له جانب تأریخی کما أنه منبثق من علاقات طهران الحمیمة مع کل من بغداد وأنقرة، کما أن هذه الوساطة لها القابلیة على وضع حل أساسی للأزمة السوریة أیضاً، بل وکما أکد الموقع الصهیونی " Debka File " فهی قد تسفر عن نتائج کبیرة أبرزها تأسیس تحالف إقلیمی بین ترکیا وإیران وروسیا.
بقلم: رمضان بورسا Ramadhan Bursa محلل ترکی