أيهما أسبق الحرية أم الديمقراطية؟ الاجابة على هذا السؤال تفرض علينا الابحار في عالم الفكر والفلسفة والآداب والفن والتاريخ مرورا بعصور التنوير الاوروبي التي عرفت بدايات الرقي في الفكر الانساني ثم عصور الثورات التي شكلت بدايات التقعيد لأفكار التنوير على المستوى السياسي ووصولا الى الحداثة وما بعد الحداثة وهي الأزمنة التي يعيش فيها الفكر الانساني نتائجه التجريبية لعقود من التساؤلات والنقد والنقد المضاد. لقد عرف مخاض تشكل الحرية كشعور انساني وكتمثل لإنسانية الانسان ثم كمجموعة قيم ومنظومة علاقات تربط الفرد بوجوده وبمحيطه مسارا عسيرا دام أكثر من أربعة عشر قرنا دمرت فيه حضارات وأبيدت فيه شعوب وسيلت فيه دماء كثيرة حتى التقت الامبراطوريات في حرب عالمية مدمرة تكررت مرتين وانتهت بالإعلان العالمي لحقوق الانسان.
مع بدايات العقد الأول من القرن السادس عشر، تفاجأت الكنيسة في ألمانيا بوثيقة مطلبية علقها 'مارتن لوثر' على الأبواب الرئيسية للكنيسة مطالبا وثائرا ضد استبداد الكنيسة واستيلائها على عقول الناس وحياتهم وحتى أموالهم. كانت هذه ثورة حقيقية هزت أرجاء أوروبا خلقت حربا دامية بين الكاثوليك والبروتستانت وخلقت تيارات دينية جديدة نعتت بالإصلاحيين. هذه التغيرات وأحداث أخرى شكلت الانطلاقة الأولى لبروز الفكر التحرري والذي شكل المادة الرئيسية للعديد من المدارس الفلسفية كالمدرسة الاجتماعية والوجودية والعقلانية. وكانت لفلاسفة الأنوار شرف وضع اللبنات التصورية الأولى لمفهوم الحرية مع أعمال فلسفية ضخمة لكل من أرسطو وفولتير وكانط وجون ستيوارت ميل مرورا بسارتر وألبيركامو ووصولا الى توماس هوبس وجون لوك وروسو أصحاب نظرية العقد الاجتماعي. المدارس الأدبية هي الأخرى لم تخرج عن هدا السياق، فالمدرسة الرومانسية (القرن الثامن عشر) بزعامة كل من 'وليام وودسورث' و'صامويل كولوريدج' عبرت عن جمالية التحرر في العمل الأدبي حين يعبر بلغة حقيقية عن أحاسيس الفرد ووجدانه في تناغم تام مع الطبيعة.
جاء عصر الثورات فكان ايدانا باستشعار الانسان الأوروبي لضرورة التغيير وفك الرهان مع الماضي والدين والحكم الذي نسفته المدارس الفلسفية ودعت اليه التيارات الأدبية وصورته الانتاجات الفنية الأوروبية. اشتعلت فرنسا مرتين ولمدة مائة عام تبعتها ألمانيا ثم انجلترا وباقي ربوع أوروبا حتى رسخت قيم الحرية وأقيمت أنظمة حكم مدنية حديثة لكي تستجيب لنداءات الحرية عن طريق بناء دول مؤسساتية تصون الحريات وتسهر على حمايتها من الكهنوت والاستبداد والطغيان. كان لعصر الثورات الدور الأساسي في فك الرهان مع اشكال الحرية الذي أصلت له الأدبيات التنويرية وذلك عن طريق تحقيق مكتسبات عديدة أهمها، التحرر من العقائد السالبة للحرية والتحيزات الدينية وتحرير الإنسان من بنيات اجتماعية غير متطورة وفك ارتباط الدولة مع شرعية العقائد ثم العودة الى الفرد وتحجيم دوره في المجتمع.
عربيا وإسلاميا، انهارت الحضارة الاسلامية وهي في بداياتها الأولى بعد ثمانية قرون من قيامها بسبب تقزيم دائرة الحرية الفكرية والسياسية بعدما ظهر طاعون التكفير المرادف لمحاكم التفتيش في أوروبا ودخل في انحطاط عسير مازال يقاوم من أجل الخروج منه. بدأت الانتكاسات تلو الأخرى حتى استفاق العرب على وقع عالم يتطور وبوتيرة سريعة فيما تزال الفرق الدينية من سنة وشيعة تتنابز فيما بينها ومؤسسات دينية أقفلت العقل الاسلامي وجعلت من الموروث دستورا أبديا شاملا وجامعا وشارحا وموضحا لا يجوز الخروج عنه أو الأخذ بغيره.
وكانت انعكاسات ذلك تدهورا في جل مناحي الحياة من فقر اجتماعي وتدهور اقتصادي واستبداد سياسي ما فتح المجال لظهور حركات الاستعمار التي استغلت خيرات هده البلدان من موارد طبيعية وبشرية أعادت بها بناء ما خربته الحروب العالمية الفتاكة. لكن حركة الفكر التنويري العربي ورغم ضحالة المحيط الثقافي والفكري استطاعت البروز وحاولت استقراء ظروف الانحطاط العربي عبر اعمال ضخمة لمفكرين وأدباء من محمد اقبال ونجيب محفوظ وعلي الوردي مرورا بمالك بن نبي وعبد الله القصيمي وعبد الرحمن الكواكبي وعبد الوهاب المسيري ووصولا الى محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن ومحمد أركون. وجل الأعمال الفكرية لهولاء ألقت اللوم على ظروف نشأة الاستبداد الفكري والديني والسياسي.
لقد بات مفروضا على دول الربيع العربي تعزيز الحريات واستنباتها في الجذور الثقافية والتعليمية والمجتمعية لأن الفرد الحر من جميع أنواع الاستيلابات والذي يعي حريته ومسؤوليته أساس بناء مجتمع مؤسساتي يضمن تحقيق الحريات وبناء دولة الحق والقانون. هناك فرق كبير بين دولة الحريات ومجتمع الحريات وبين دولة الهياكل الدستورية والمؤسسات الصورية التي تصور الديمقراطية كآليات لتداول السلطة على أنها الرهان الوحيد لبناء مجتمع حداثي. ان الديمقراطية هي افراز لفاعلية المجتمع المدني وليس عملية هيكلة السلطة ذلك لأن الاستبداد يأخذ أيضا أشكال مؤسساتية تفرزها الانتخابات والأحزاب السياسية والمنضمات الحكومية في تماه تام مع أنظمة الريع والاستيلاء. يجب أنسنة أنظمة الحكم العربية وإعطاء الفرد حريته المسلوبة من أجل مأسسة الابداع وفك الرهان مع ثنائية الخوف وفقدان الثقة بين الفرد والدولة. لأن الحرية هي تعزيز للقدرات الفردية، هي تحرير الانسان من رقبة الجهل والمرض والتبعية، هي تنمية للرأس المال البشري والطبيعي، هي تنظيم عملية التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وهي أيضا تنظيم للعلاقات الانسانية الفعالة.
مصطفى أيت خرواش ( باحث من المغرب )
مصطفى أیت خرواش
رمز الخبر 184728