٠ Persons
٣٠ سبتمبر ٢٠١٢ - ١٤:٢١

نصری الصایغ

لا یبدو أن عقد قران قد یحصل، بین شرق مستمسک بالعروة الوثقى، وبماضیه، وبین غرب حدیث أقدم على طلاقٍ مع ماضٍ کبَّده ثمناً باهظاً، للتحرر والانعتاق منه... وفی هذا الصدد، لیست المسألة من على حق. هنا السؤال غلط، والجواب حتماً غیر صائب. فی هذا الصدد، یجدر تسجیل الوقائع لا أکثر، کی لا نقع فی سوء التفسیر، والنوایا المظلمة، العدوانیة والاتهامیة.
قیل فی شریط «براءة المسلمین» ما یستحقه من نعوت. إجماع عربی وغربی، إسلامی ومسیحی، على أن الشریط سخیف وتافه وحقیر واستفزازی ومهین ولا علاقة له بالفن والإبداع... وقیل کذلک، هذا شریط «أهل سوء» ارتکبوه عنوة بهدف التحقیر.
إجماع مبرم، إنما... غرب یقول، إیاکم وحریة التعبیر. وشرق یطالب، بتقیید هذه الحریة، لعظمة الإساءة عندما یساء استعمالها.
فی الغرب، حریة التعبیر، حق مقدس لا یمس. لا یجوز التجدیف علیه، والمطلوب دائما صیانته وتحصینه. قد یساء بحریة التعبیر إلى المقدسات المسیحیة والإسلامیة، ومع ذلک، یلزم ألا یساء إلى حریة التعبیر... هذا حق دفعت أوروبا ثمنه: محاکم تفتیش، حروب دینیة، إعدام علماء ومفکرین، نبذ واضطهاد وإحراق هراطقة، إلى آخر سلسلة التعذیب وتملیع الأجساد، والتی وصف إحدى عملیاتها میشیل فوکو فی کتابه Surveiller et punir ولکی لا تبقى حریة التعبیر على غاربها، وضعت لها حدود مائعة کالإساءة إلى الانتظام العام وإثارة التعصب، یمکن التسلل من خرومها إلى منطقة السماح لحریة التعبیر بالعبث القاتل، حیث لا یعاقب المرتکبون، وحیث یسقط الأبریاء... انتقاماً ولا رادع.
هذا الاجماع الغربی على حراسة وحمایة حریة التعبیر أفسح المجال لمجلة «شارل ایبدو» الفرنسیة، بانتهاز الفرصة، ولزیادة مبیعات مجلتها، بنشر رسوم کاریکاتوریة مسیئة للإسلام والرسول، وقد اعتبر عدد من المعلقین الغربیین هذا النشر فعلاً انتهازیاً... لا علاقة له بالفن، ومع ذلک: إیاکم وحریة التعبیر. من یعتبر نفسه معتدى علیه، فلیذهب إلى المحاکم، فأمامه القانون.
ولقد حدث ذات مرة ان رفعت دعوى ضد من أساء إلى الرسول، ولکنها لم تحظ بعقوبة. القانون حمى «المرتکب»، فی عرف المتضررین نحن لسنا أوروبا، ولا نشبهها. حریة التعبیر عندنا لا تنقصها إلا الحریة. التعبیر عندنا مقید. التفکیر مکبل. للمنوعات عندنا سیادة تامة: لا مساس بالدین والجنس.. وإیاکم المساس بالسلطة. الثالوث المحرَّم هذا هو الثالوث المقدس.
اننا نعیش فی عالم واحد وفی زمن واحد مع الغرب، ولکن بتاریخین متباعدین. وجوه القرابة بیننا، قد تکون نتیجة بعض النخب التی اختارت أن تتشبه بالغرب أو ان تستفید منه. على أن وجه الشبه التام، هو اننا فی نظام العولمة البربری، نحن اتباع وهم أسیاد، والعلاقة هی التبعیة.
اننا مختلفون، لیس لأن الشرق فی أغلبیته یدین بالإسلام، أو لأن الغرب فی معظمه مسیحی. لقد کانوا مثلنا الیوم، عندما عانوا فی القرون الوسطى المظلمة، فیما کان الشرق ینعم بالفکر الدینی المتسامح، الذی أنتج فکراً وثقافة وحضارة، یوم کانت أوروبا مرعوبة من محاکم التفتیش... إنما حصل ان من کان مؤهلاً للانفتاح أکثر، المسلمون تحدیداً، قد انغلقوا، والذین عانوا من قبضة الوحدانیة، قد انعتقوا. هم تقدموا، ونحن تراجعنا. هم ابعدوا الکنیسة المتسلطة والشمولیة، حتى بات التجدیف على المقدسات حقاً یقترن بحق التعبیر.
المشکلة لیست فی الدین ولا فی نظریة تخلف الشعوب العربیة، بل فی کوننا نعیش ظلماً متعدداً لا حدود لتأثیراته علینا. ظلم یطأ الکرامات البشریة قبل المقدسات السماویة، الثروات الوطنیة، قبل التراث الإسلامی، القضایا الإنسانیة، قبل القضایا المذهبیة. نحن ضحایا ظلم اخطبوطی، یبدأ بفلسطین ولا ینتهی عندها... وأفدح المظالم، أن أوروبا تزن بمیزانین على مرأى ومسمع الجمیع، ولا تخجل من ذلک.
أدلة کثیرة. لا أتوقف عند روجیه غارودی، هذا «المفکر» القافز من موقع إلى موقع ومن إیمان إلى إیمان وصولاً إلى صیرورته محظیاً عند القذافی. علماً ان من حقه وحق غیره ألا یعتقل عقله. فماذا عن الممثل دیو دونبه؟ قال عبارة ضد التأثیر الیهودی فی الإعلام، وشنت علیه حملة «إبادة» لطرده من جنة التمثیل والأداء.
لا حریة تعبیر بلا قیود تفرضها مصالح الشعوب والدول. أنتجت أوروبا عدداً من التشریعات التی تدین من ینکر المحرقة. هذا حقها، ولکننا لسنا نحن من ارتکبها. لماذا لم تحاکم الفرنسیین، وهم بالعشرات والمئات، الذین سهلوا إیصال الضحایا الیهود إلى المحرقة...
حسناً. إذا کان هذا التحریم قصاصاً وحمایة، فلماذا امتدت ید التشریع لاعتبار من ینتقد إسرائیل، معادیاً للسامیة؟ کیف ذلک؟
ثم، لماذا جزار صبرا وشاتیلا ومرتکب المذابح، والذی تطاله القوانین الدولیة والمحلیة، یستقبل کرجل سلام... أوروبا تعرفه جیداً. تعرف انه مرتکب صبرا وشاتیلا... بلجیکا عقدت محکمة لمحاکمته، ولما اقترب موعد التنفیذ، غیرت بلجیکا قوانینها. أما بریطانیا، فقد قررت تعدیل بعض قوانینها، منعاً لملاحقة تسیبی لیفنی. المجرمة المتفوقة فی مذابح لبنان وغزة.
ممنوع المساس بإسرائیل والإسرائیلیین، ولو کانوا مجرمین، ومسموح المساس بکل ما یسیء إلى المسلمین ویستفزهم.
«المحرقة الیهودیة» مقدس لا یمس. هم أحرار. ولکن ما علاقتنا بذلک، کی نعاقب. ان کتاب فیفیان فورستر بلیغ جداً. لقد ارتکب الغرب جریمة الإبادة وعاقب الفلسطینیین. هذه بدیهة نعرفها، ویعرفها الغرب. ولکنه یجبن على المواجهة، ویعوض بممارسة سادیته وعدوانیته على العرب.
بالأمس، أصدر حفید جمال باشا السفاح کتاباً عن الإبادة الأرمنیة. عاد إلى أرشیف عثمانی شارک فیه جده. اکتشف الإبادة. وهو معرض حالیاً فی ترکیا للملاحقة، لأن القوانین الترکیة لا تسمح بالإشارة إلى ان هناک إبادة للأرمن.
أین حریة التعبیر؟ ان عدم حصول الإبادة الأرمنیة، مقدس مضاد فی ترکیا.
ان سوء الفهم وسوء التفاهم، بین الشرق العربی والغرب، لیس بسبب الأدیان، بل بسبب السیاسات. العنف الذی یخرج فی شوارع المدن العربیة رداً على الإساءة إلى الرسول، عنوانه دینی، ولکن مضمونه تعبیر عن الظلم والمذلة. هو سخط کبیر ضد الغرب الذی یدعم إسرائیل، حتى عندما تکون ملطخة بدمائنا من رأسها إلى أخمصها.
هو عنف یعود إلى استمرار دعم إسرائیل التی تسحق الفلسطینیین وتبید أرضهم وتمنع عنهم فی بلادهم وطنهم... هو عنف ضد غرب لأنه تفوق فی دعم أنظمة الفساد وطغمة الدیکتاتوریین الجمهوریین والملکیین. هو عنف یفصح عن رفضه لنهب الثروات وتعطیل الإنتاج وسحق البیئة. هو عنف ضد تدمیر العراق وأکثر من ملیون عراقی قتیل وأکثر من نصف ملیون طفل عراقی استشهد إبان الحصار.
لا عذاب یفوق العذابات التی کبدنا إیاها الغرب، بواسطة أدواته المطیعة له. هذه الأدوات أجبن من ان تصنع إنساناً، لولا الدعم الذی تلقاه من الغرب، صاحب شعار «حقوق الإنسان» بالمفرد، لا حقوق الشعوب بالجمع.
هذا الغرب لیس ضد الإسلام... هو ضد هذه الشعوب التی یریدها ان تبقى فی مرحلة عبدة الأوثان الدینیة فقط، ولا تریدها وقد تحررت من جهلها وتخلفها وفقرها وزوغانها... فیقظة العرب، قد تعنی للغرب أموراً لا یستحبها.
هذا الغرب منافق وکذاب. ومصیبتنا اننا نخوض معه معارک یکسبها، لأنها المعارک الغلط فی المواقع الغلط. المعرکة الحقیقیة، هی معرکة انعتاق العربی من أثقاله الماضیة، والتعامل معها بانتقائیة المصلحة والإفادة، وانعتاقه من ردات الفعل العنیفة، لیتعامل مع العالم، بمنطق الحقوق والمصالح، ولیس بمنطق المقدس والمدنَّس.
إذا کان الغرب ینظر إلینا بعین واحدة، فلیس علینا أن نتعامل معه، على العمیانی، ضده على طول، أو معه مهما کان الثمن.

رمز الخبر 183281