یخطئ کل من یعتقد أن القضیة الفلسطینیة قد أصبحت فی المرتبة الثانیة بالنسبة لتطور الأحداث فی منطقة الشرق الأوسط، ویخطئ من یعتقد أن القضیة الأولى للشعب العربی لم تعد القضیة الفلسطینیة، ویخطئ من یعتقد أن الخطر الإسرائیلی لم یعد الخطر الأساسی الذی یهدد المنطقة برمتها. ویخطئ أیضا من یعتقد أن الحلم الصهیونی فی التوسع والسیطرة على مقدرات الحیاة لشعوب المنطقة قد انتهى.
کلها لا تزال حیة وقائمة، ومحاولات السیر بها فی الاتجاه الإستراتیجی الذی خطط لها لا تزال مستمرة، ولکن لن یکتب لها النجاح لأنه لا یصح إلا الصحیح.
والمراقب لما یدور من أحداث فی المنطقة یرى بوضوح کیف حُولت أنظار الکثیرین من قادة الدول العربیة، عن الخطر الإسرائیلی الحقیقی، لیتوجه صوب العدو الجدید وهو إیران. وفی نفس الوقت تستغل إسرائیل هذا الموقف لتنفذ إستراتیجیتها الصهیونیة، خصوصا على أرض فلسطین وأماکنها المقدسة.
فقد تناقلت وسائل الإعلام الإسرائیلیة مخططا إسرائیلیا کشف النقاب عنه حدیثا یهدف للسیطرة على مزید من الأراضی العربیة، وتحویلها إلى أراض یهودیة. فقد أقامت سلطات الاحتلال "بنک أرض" یهدف إلى السیطرة على أراض عربیة بإغراءات مالیة وأسالیب صهیونیة أخرى، من أجل توسیع المستعمرات الیهودیة القائمة، وبناء المزید من المستعمرات الجدیدة فی المستقبل "هآرتس 30/ 3/ 2012"؛ أی أن سیاسة التوسع لا تزال أحد الأهداف الأساسیة لإسرائیل.
وهذا البنک، کما تقول الصحیفة الإسرائیلیة المذکورة، یشمل معلومات عن 569 موقعا على مستوى الضفة الغربیة کلها، والتی تبلغ مساحتها 620 ألف دونم، أی حوالی 10 بالمئة من مساحة الضفة کلها.
وقد عجزت الولایات المتحدة عن منع إسرائیل فی الاستمرار بمشاریعها الاستعماریة فی الضفة، وقررت التخلی عن الموضوع، بدلا من الدخول فی معرکة مع حکومة نتنیاهو. وزاد تنازلها عندما هددت إسرائیل بأنها ستقوم بمفردها بعملیة انتحاریة لضرب المنشآت النوویة الإیرانیة، الشیء الذی یتناقض مع السیاسیة الأمریکیة الحالیة الرامیة إلى التخلص من الوحول الأفغانیة، والعمل على تحسین الاقتصاد الأمریکی وغیرها من العوامل الداخلیة.
ووصل الأمر إلى أن تتهم تل أبیب واشنطن، بأن العقوبات التی تفرضها على إیران هدفها وضع عراقیل أمام إسرائیل، بحیث تقنع الرأی العام العالمی من خلالها أنها ستحصل على مبتغاها بالطرق الدبلوماسیة ولیس بواسطة الحرب، وبالتالی تمنع إسرائیل من القیام بعملیات عسکریة ضدّ إیران، والتی قد تحرج الولایات المتحدة، بصفتها الحلیف القوی لإسرائیل.
ولکن فی الواقع فإن الإدارة الأمریکیة واقعة تحت ضغط القیادة العسکریة الأمریکیة، حیث إن وزارة الدفاع الأمریکیة "البنتاغون" تعارض بشدة أی تدخل عسکری أمریکی، إلا إذا کان هناک خطر حقیقی یواجهه الولایات المتحدة، وإیران فی هذه المرحلة، فی رأی وزارة الدفاع الأمریکیة، لا تشکل خطرا على أمریکا.
کما أن البنتاغون قد تعلم درسا من الشبکة التی نصبتها إسرائیل، والحرکة الصهیونیة، للولایات المتحدة بالنسبة للحرب فی العراق، حیث قتل ما یقارب خمسة آلاف جندی أمریکی وجرح عشرات الآلاف، وکلفت الحرب أکثر من تریلیون دولار، ساعدت على انهیار فی الاقتصاد الأمریکی، ولم تحقق أمریکا من هذه الحرب أیا من أهدافها، خصوصا تلک المتعلقة بالتغییرات الجذریة فی منطقة الشرق الأوسط، وفی مقدمتها نشر "الدیمقراطیة"، وإقامة "الشرق الأوسط الجدید". ولکنها حققت هدفا مهما لإسرائیل وهو إخراج الجیش العراقی من المواجهة معها، وتفتیت العراق عن طریق تغذیة الحزازات الطائفیة والعرقیة والدینیة.
واستمرت واشنطن فی سیاسة تحویل وجهة نظر القادة العرب عن الخطر الإسرائیلی، وذلک عن طریق الترکیز على الخطر الإیرانی. فقررت وضع مخطط لإقامة ما سمته "الدرع الصاروخی" الواقی فی منطقة الخلیج لحمایة هذه المنطقة من الخطر الإیرانی. ولیس لحمایة هذه المنطقة الإستراتیجیة والمهمة للعالم من أی خطر مهما کان بل حددته بالخطر الإیرانی.
فقد سارعت وزیرة الخارجیة هیلاری کلینتون فی الأسبوع الماضی إلى منطقة الخلیج، لتطرح هذا المشروع. وقال مسؤول أمریکی "31/ 3/ 2012" من مرافقی وزیرة الخارجیة للصحفیین: "إن الولایات المتحدة تسعى إلى تطویر بنیة دفاعیة صاروخیة إقلیمیة، وإنه لا یمکن لأمة بمفردها حمایة نفسها، علیها الاعتماد على شرکائها لتمتلک نظاما دفاعیا صاروخیا فاعلا... إن للنظام الدفاعی الصاروخی أولویة فی شراکتنا مع دول مجلس التعاون الخلیجی، وإن إیران من أکبر التهدیدات التی تواجهها المنطقة بشکل واضح".. بمعنى أن هذا الدرع الصاروخی هدفه إقلیمیا، وسیعتمد على طواقم خبراء أمریکیین. ولکن مثلنا العربی یقول "لا یحک جلدک غیر ظفرک".
ولکن أمریکا لم تکتف بذلک، وکشفت عن مزید من الأهداف وراء مخططها "السخی" هذا. فقد کشفت المتحدثة الرسمیة باسم وزارة الخارجیة الأمریکیة، فیکتوریا نولاند، فی إیجازها الیومی "1/ 4/ 2012" عن وجود اتفاقیات دفاعیة فی مجال الصواریخ مع بعض دول الخلیج، الهدف من ذلک کما قالت المتحدثة نولاند: "کی تصبح أکثر فعّالیة فی الإطار الإقلیمی... ومساعدة جمیع الدول التی تعمل معاً فی مواجهة التهدیدات المشترکة".
طبعا من حق کل دولة العمل على الدفاع عن نفسها ضدّ أی خطر خارجی، ولیس ضدّ خطر واحد.
إن إسقاط الخطر الإسرائیلی من هذه المعادلة الأمریکیة جاء لیخدم إسرائیل، بحیث تستطیع الاستمرار فی سیاستها العنصریة، وسیاسة سرقة الأراضی الفلسطینیة، والقیام بالقتل المتعمد، دون أن یحاسبها أحد. وعندما ترفض السماح للجنة حقوق الإنسان المنبثقة عن الأمم المتحدة بالقیام بالتحقیق بما یجری للفلسطینیین تحت الاحتلال، لا تقوم الدنیا ولا تقعد، ویکتفی بالتندید، لا بإنزال العقوبات کما یحدث لدول أخرى.
إن إسقاط الخطر الإسرائیلی من معادلة الأمن القومی العربی إلى المرتبة الثانیة یعنی السقوط فی شباک إسرائیل. ستبقى إسرائیل العدو الأول للشعب العربی رغم التوجه الجدید لقادته، إلى أن تحل القضیة الفلسطینیة حلا عادلا. ومن یعتقد أن الدول العربیة سلمت من المؤامرات الصهیونیة بسبب التغییر فی معادلة الجامعة العربیة بالنسبة للقضیة الأولى، فإنه بذلک یخدع نفسه. إن الأطماع الإسرائیلیة لا زالت کما کانت علیها منذ أن خططت الصهیونیة لاحتلال فلسطین وطرد سکانها.
4949
د. فوزی الأسمر
رمز الخبر 182537