٠ Persons
١٧ يناير ٢٠١٣ - ٢٢:٢٩

سعید الشهابی

مع حلول العام الجديد تتواصل التنبؤات حول ما ستشهده المنطقة العربية في العام الحالي، خصوصا مع استمرار التدخلات الاجنبية في شؤونها باشكال مختلفة، من بينها الاستهداف العسكري المباشر. هذا التدخل بدأ يتخذ اشكالا مختلفة عما حدث في العراق وافغانستان. ففي كلا البلدين كانت الخسائر كبيرة مقارنة بالنتائج. واضطرت القوات الامريكية والبريطانية الى الانسحاب من العراق، بينما لا تزال تصارع من اجل تحقيق مخرج مشرف من افغانستان. وهنا يبدو مشروع ما سمي 'الحرب ضد الارهاب' الذي كان السبب المعلن لتلك التدخلات العسكرية المباشرة، اكثر تعقيدا وغموضا، فتلك الحرب متواصلة ولكنها توسعت لتشمل الحرب السياسية ضد ما يعتقده الغربيون 'ارهابا سياسيا'، بمعنى التصدي لسياسات الغرب الساعية للهيمنة على العالمين العربي والاسلامي.
وقد شهد العام الماضي بداية اعتراف انكلو ـ امريكي بعدم القدرة على حسم الحروب العسكرية، التي تشنها هذه الدول بدعوى التصدي للارهاب ومصادره. وجاءت التراجعات الاقتصادية في كلا البلدين لتكثف الضغوط عليهما لتقليص نفقاتهما العسكرية، والبحث عن اساليب اخرى لمواجهة ما تعتقدانه من تحديات مستقبلية لمشاريعهما وسياساتهما في الشرق الاوسط. وهنا تراجع مبدأ التدخل العسكري المباشر، نظرا لتكاليفه المادية والبشرية وعدم جدواه الواضحة وانعكاساته السلبية على مستقبل النفوذ في العالمين العربي والاسلامي، وتصاعدت المعارضة ضده من قبل الرأي العام الغربي. وقد شهد العام الماضي تصاعدا لمشروع مواز تمثل باستخدام طائرات 'درون' التي توجه الى اهدافها بدون طيار. وركزت ادارة اوباما على هذا الاسلوب بشكل متزايد. ونجم عن ذلك مقتل اكثر من 300 من اعضاء تنظيم 'القاعدة' في اليمن، التي كانت مسرحا لـ53 هجوما من طائرات 'درون' مقارنة بـ 46 هجوما شنته الولايات المتحدة في باكستان، التي تراجع استخدام هذه الطائرات فيها عن المستوى الذي كان عليه في العام 2011. ولكن معارضي ذلك النمط من اساليب استهداف الاشخاص المشتبه في ارتباطهم بالارهاب يقولون ان ذلك لا يمثل نجاحا في مجال استهداف الارهاب والقضاء عليه، وبالتالي لا بد ان يتوقف، خصوصا ان اغلب ضحاياه من الاطفال والنساء.
ففي العام 2011 قتل اكثر من الفي شخص في باكستان نتيجة الاستعمال المفرط لهجمات طائرة 'درون'، اغلبهم من النساء والاطفال. وبذلك يطرح سؤال أخلاقي بقوة: ما مدى شرعية العمليات العسكرية التي تستهدف الارهاب، ولكنها تقتل عددا من النساء والاطفال خلال تلك العملية؟
ثمة امور اكتشفتها تحريات صحيفة 'التايمز' البريطانية، تقول ان الطيران العسكري السعودي اصبح اكثر مساهمة في الهجمات العسكرية على مواقع مجموعات 'القاعدة'، خصوصا ما يسمى 'تنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب'. ويعتقد الامريكيون وحلفاؤهم ان هذا التنظيم هو الاخطر من بين مجموعات 'القاعدة'، خصوصا بعد ان تم توجيه العديد من تلك المجموعات بعيدا عن اهداف التنظيم الام الذي انشأه اسامة بن لادن، فاصبحت اكثر انشغالا باهداف محلية انطلاقا من اعتبارات جهوية او مذهبية، ولذلك ركزت السياسات الامريكية والبريطانية والسعودية على تنظيم 'القاعدة في جزيرة العرب'، الذي ما يزال اكثر توجها لاستهداف النفوذ الغربي في الجزيرة العربية. وجاءت اعمال الاستهداف ضد اعضائه، خصوصا في اليمن على نطاق واسع، بمشاركة من القوات الجوية السعودية. وغيرت واشنطن الهدف الرئيس لتلك الطلعات الجوية من مبدأ 'القتل او القاء القبض' لعناصر 'القاعدة' الى 'القتل او القتل' وفق ما تقوله مصادر البيت الابيض. وقد واجهت ادارة اوباما اعتراضات عديدة من جهات حقوقية وسياسية، من بينها الرئيس الامريكي السابق جيمي كارتر. فقد نشر مقالا بصحيفة 'نيويورك تايمز' في 12 حزيران (يونيو) الماضي بعنوان 'سجل قاس وغير معتاد' قال فيه 'ان الولايات المتحدة تتخلي عن دورها كمدافع دولي عن حقوق الانسان'. واشار المقال الى ان مسؤولين كبارا اصبحوا يستهدفون اشخاصا للاغتيال في الخارج، من ضمنهم مواطنون امريكيون، وان ذلك دليل على مدى ما وصلت اليه امتنا من انتهاكات لحقوق الانسان.
وفي غياب الرفض الشعبي لتلك السياسة يؤكد جيمي كارتر ان 'النتيجة اصبحت ان بلدنا لم يعد قادرا على الحديث من موقع الصدارة الاخلاقية حول هذه القضايا'. واضاف: 'ارتكبت البلاد اخطاء في الماضي، ولكن انتشار انتهاكات حقوق الانسان طوال العقد الاخير يمثل تغيرا كبيرا عن الماضي'. وبينما التزمت بريطانيا بالصمت ازاء دورها في عمليات استهداف العناصر التي تتهم بالارهاب عن طريق طائرات 'درون' الا ان اصواتا ارتفعت مؤخرا تتساءل عن مدى ذلك الدور وحجمه. وينطلق معارضو هذه السياسة من مبدأ 'ان كل متهم بريء حتى تثبت ادانته'، وان قتل المتهمين بالارهاب بالاستهداف بالصواريخ التي تطلقها طائرات 'درون' يمكن تصنيفه ضمن جرائم 'القتل خارج القانون'.
يضاف الى ذلك ان الاستخدام المتزايد لقتل العناصر المطلوبة بالطائرات المذكورة له مضاعفات اخرى عديدة. اولها قتل المدنيين الابرياء اما بسبب وجودهم قرب الاشخاص المطلوبين او خطأ التشخيص من قبل الطائرات ومشغليها، او انحراف الصواريخ والقنابل المستخدمة لضرب الاهداف. ثانيا: تصاعد الغضب في باكستان ضد هذه العمليات، وحدوث شرخ في العلاقات بين الحكومتين الباكستانية والامريكية. وقد اضطرت الولايات المتحدة لتقليص استخدام وسيلة القتل هذه، فانخفضت الى 46 عملية العام الماضي مقارنة بـ 72 في 2011. اما في اليمن فيبدو ان الرئيس منصور هادي يتبنى هذه العمليات ويعتبرها ضمن خطته لمواجهة تنظيم 'القاعدة في جزيرة العرب'.
ثالثا: ازدياد اللغط القانوني بشأن هذا الاستخدام ومدى انسجامه مع القوانين الدولية، خصوصا انه يتضمن ادانة الاشخاص المستهدفين واصدار حكم الموت عليهم قبل التحقيق معهم او محاكمتهم. وفي 31 كانون الثاني (يناير) 2012 طالبت منظمة العفو الدولية من الولايات المتحدة 'ان تكشف الوثائق الضرورية حول الظروف والوضع القانوني، لتقدير الشرعية القانونية لعمليات القتل العمد التي تقوم بها (من خلال هجمات طائرات درون)'. وقالت انه لا يكفي ما يردده المسؤولون الامريكيون بقولهم 'ثقوا بنا ان ذلك قانوني'.
رابعا: ان الاستخدام المتزايد لهذه الطائرات كشف جوانب ضعفها، خصوصا بعد ان استطاعت ايران انزال طائرتين من هذا النوع حلقتا فوق مياهها الاقليمية. واستطاعت السلطات الايرانية الاستفادة من هذه الطائرات التي انزلتها باختراق اجهزتها الالكترونية، واحتفظت بها وربما تعرفت على التكنولوجيا المستخدمة فيها. ويعتبر هذا اختراقا خطيرا للامكانات العسكرية الامريكية، لان هذه الطائرات تعتبر من اهم التطورات التكنولوجية في المجال العسكري، وعندما تسقط بايدي جهة تعتبرها واشنطن 'معادية' فان ذلك خسارة كبرى لها ومؤشر لغياب اساليب حماية الممتلكات العسكرية الامريكية، خصوصا ان ايران تعتبر جهة معادية من وجهة نظر واشنطن. ومما زاد الطين بلة ان 'حزب الله' الذي تدعمه ايران، استطاع استخدام طائرة بدون طيار وارسلها الى عمق الاراضي الفلسطينية المحتلة، لتلتقط صورا كثيرة لمواقع عسكرية مهمة، خصوصا في صحراء النقب، حيث يقع مفاعل 'ديمونة' والمنشآت النووية الاسرائيلية.
مما تقدم يتضح ان ما سمي 'الحرب ضد الارهاب' تحول الى تمرين عسكري تلعب التكنولوجيا فيه دورا كبيرا، ولكنه يبقى خارج معايير الاتقان المعهودة في مثل هذه العمليات. ومع الاعتراف بان امريكا مستعدة للتضحية بعشرات الآلاف من المدنيين الابرياء من اجل تحقيق اهدافها، فان تصاعد الضحايا المدنيين من شأنه ان يؤدي الى ردة فعل عاصفة ضد واشنطن وحلفائها، الامر الذي سوف يضاعف خسائرهم في المنطقة. ومع تعدد محاولات استنساخ التكنولوجيا الامريكية من قبل الدول المعادية لسياسات واشنطن في العالم، فمن المتوقع ان يتم حدوث اختراق في الطوق التكنولوجي الشائك الذي شكلته الولايات المتحدة حول نفسها. فاذا حدث ذلك فستفقد امريكا تفوقها التكنولوجي بشكل تدريجي ومعه نفوذها. واذا كانت واشنطن تعتقد ان تفويض السعودية للقيام ببعض من ادوارها سيحقق بعض اهدافها، فانها بذلك تعيد تجارب ماضية غير سعيدة، وليست مضمونة النتائج. فهي التي دعمت شاه ايران وزودته بالاسلحة حتى الرقبة، ولكن سياساته الداخلية الفاشلة اسقطت نظامه وافقدت امريكا واحدا من اهم حلفائها في المنطقة. وفي الثمانينات سعت واشنطن لمواجهة نظام الرئيس دانيال اورتيغا في نيكاراغوا عن طريق قوات الكونترا التي سعت لتمويلها باموال من مبيعات الصواريخ لدول اخرى من بينها ايران، وذلك لتجاوز اعتراض الكونغرس تمويل تلك القوات مباشرة. يومها كانت امريكا تسعى لتصحيح بعض مسارات سياستها بالتوقف عن عمليات الاغتيال السياسي او تمويل مجموعات العنف. ولكنها لم تنجح في تلك المحاولة كثيرا، وبقي اورتيغا في الحكم حتى 1990 عندما خسر حزبه الانتخابات. وعاد الى الحكم مجددا في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 عبر صناديق الاقتراع. وهكذا يتضح ان سياسات الالتفاف على الواقع والسعي لتجاوز القانون باية وسيلة لا تؤدي الى النتائج المرجوة، وكثيرا ما كانت لها تبعات غير سعيدة.
بعد سقوط ديفيد بتريوس من ادارة وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية، صعد نجم جون برينان، كبديل، واصبح اسمه ضمن مجموعة قليلة تتنافس للحصول على ذلك المنصب. غير ان هذا الشخص يمتلك قدرة واسعة على الحركة من خلال منصبه كرئيس للمركز القومي لمكافحة الارهاب. ويعتبر مسؤولا عن الفريق الذي وضع سياسة قتل ناشطي تنظيم 'القاعدة في جزيرة العرب'. وتوسعت قائمة اسماء المطلوبين في اليمن لتشمل ليس فقط ارهابيي تنظيم 'القاعدة'، بل الاشخاص الذين يتهمون بانشطة ارهابية. واعرب مؤخرا عن افتخاره بما يقوم به في اليمن واصفا اياه بانه 'نموذج لما يجب ان يقوم به المهتمون بمكافحة الارهاب'. فاذا اصبح هذا الشخص رئيسا لـ'سي آي أيه' فستكون سلطته اوسع لتوسيع دائرة عمل طائرات 'درون' لتشمل ناشطين آخرين في بلدان مختلفة. وبذلك يبقى الحل الامني خيارا اول لدى مسؤولي الامن والاستخبارات الامريكيين، الذين يأملون في ان ينجحوا في 'الحرب ضد الارهاب' بتوسيع نطاق عمل طائرات 'درون'. ولدى الرئيس اوباما سعة من الوقت بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية مؤخرا، وبامكانه توجيه الانظار الى ملف العنف والارهاب بشكل اكثر تركيزا. ولكنه لن يكون بمأمن من النقد المتوقع توجيهه اليه، خصوصا اذا تكررت الاخطاء في عمليات استهداف عناصر تنظيم 'القاعدة'، وتوسعت اصابات المدنيين، كما حدث في باكستان.
وثمة مشكلة اخرى وهي ان الرئيس اوباما ربط نفسه عمليا بالرئيس اليمني الذي نصب بديلا لسلفه علي عبدالله صالح، لاجهاض ثورة الشعب اليمني. وما تزال اليمن تغلي على مرجل من نار نتيجة ذلك. وفي بلاد كاليمن، مفتوحة الحدود وبطبيعة جبلية وتعدد مذهبي، فلن تكون السيطرة على انتشار تنظيم 'القاعدة' خصوصا مع وجود ارضية لتجنيد المزيد من الافراد، امرا يسيرا.
لا شك ان سياسة تحويل ما سمي 'الحرب ضد الارهاب' الى عمليات قتل منظمة للافراد الذين يشتبه في انتمائهم لتنظيم 'القاعدة'، يعتبر تطورا معقدا يصعب التنبؤ بنتائجه. واذا كانت عمليات القتل التي جرت في العامين الاخيرين في باكستان واليمن قد ساهمت في اضعاف تنظيم 'القاعدة' وقدراته العسكرية، الا انها أسست لمشاكل مستقبلية. من هذه المشاكل ان السعودية، بنظامها الحالي، ستظل مصدر استفزاز للعناصر التي تشكلت في تنظيم 'القاعدة' اساسا بدوافع، من بينها استهداف النظام السعودي. وفي غياب قدرة العائلة المالكة السعودية على تطوير نفسها ونظام حكمها لمواكبة مستلزمات العصر من تمثيل شعبي وشراكة سياسية حقيقية، فان التعويل عليها كحليف سيكون له مفعول عكسي. فبدلا من السيطرة على الارهاب ليس مستبعدا ان تشهد المنطقة مزيدا من الاضطرابات الداخلية والتوترات الامنية. ومن غير المنطقي استسخاف مقولات الكتاب (ومن بينهم كريستوفر ديفيدسون، مؤلف كتاب 'ما بعد الشيوخ') الذين يعتقدون بان نظام المشيخات الخليجية لن يدوم طويلا. كما ان استمرار الدعم الانكلو ـ امريكي لهذه المشيخات بدون الضغط عليها لتطوير انظمتها السياسية، سيأتي بنتائج عكسية، لان ذلك سيكون استفزازا لدعاة الاصلاح ومثارا للغضب والاشمئزاز. فاستهداف العنف والارهاب لن ينجح الا بازالة اسبابه او بعضها على الاقل، ومنها انظمة القمع والاستبداد والديكتاتورية، الفردية والقبلية. اما الاعتماد على طائرات 'درون' الامريكية، و'اف 16' السعودية فهو رهان خاسر لن يزيد النار الا اشتعالا، وسيؤدي الى المزيد من العنف والارهاب.
' كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

رمز الخبر 184191